تعد تيمة
"الاغتراب"، من الموضوعات المهيمنة في الشعر العربي؛ إذ تسهم في نسج
دلالية النص الشعري، بما تُولِّدُه في مختبره من أسئلة مؤرقة (كونية وفنية
وأنطولوجية...)، وما تُفْرزُهُ من قيم فنية تدفع بالفعل الشعري إلى النمو والتطور،
علاوة على أنها تؤدي إلى تناسل رؤى شعرية شديدة العمق والحيوية، وتتضافر مع الدوال
اللغوية الأخرى، لتضفي جمالية متفردة على الخطاب الشعري ككل.
ومن
منطلق أن "الاغتراب" – في الشعر العربي – ككينونة مختلفة أنطولوجيا
ومكانيا وثقافيا وذاتيا، فالشاعر، باعتباره كائنا مُبْدِعاً، يعيش في العادة
اغترابا متعدداً: اغتراب وجودي مُغْلَّف بقلق ميتافيزيقي، واغتراب مكاني مرتبط
بذاتية الانتماء، وكذا اغتراب فكري – ثقافي، يتولد أساسا من إحساس الذات المبدعة
بألم الانفصال عن النسق الثقافي –الفكري السائد.
والاغتراب
في جميع الأحوال إنما هو نابع عن الإحساس الصادر عن ذات شاعرة مبدعة، حزينة، قلقة،
تسعى إلى إبطال الزمكان، وتسمو إلى معانقة الحلم والرؤيا، عبر تجاوز أغلال الجسد
(الإبداعي) ذاته، وتحريره من كبته النفسي والأيديولوجي والثقافي والاجتماعي...
وهذه
الدراسة تسعى إلى الإنصات العاشق وتتلمس معانقة نماذج شعرية عربية (قديمة وحديثة)،
وتَرْفُلُ في أعطاف الاغتراب بكل أبعاده وتشظياته، التي تُوَلِّدُ في جسد النص
سلسلة من الأسئلة والمفاهيم والمبادئ، وتحرض "القارئ الحاذق" على التوغل
أكثر فأكثر في أدغال القصيدة وتضاريسها، لاقتناص أجوبة شافية، قد تُرضي بعضاً من
فضوله المعرفي والجمالي، وقد تُمكنه في الآن نفسه من الإنصات العاشق لنبضات وآهات
الذات الشاعرة المعذبة والقلقة، جراء الإحساس بألم الاغتراب.
وتأسيسا
على ما سبق، ينبع اهتمامنا بموضوعة الاغتراب في تجلياتها وتشظيها في المنجز الشعري
العربي من راهنية الإشكالات التي تطرحها هذه التيمة في الاشتغال النقدي الأدبي
الحديث، ومنها ما يرتبط بتعالق ظاهرة الاغتراب مع ظاهرة الغربة، مما يعقد إمكانية
فهم الظاهرة (ظاهرة الاغتراب)، وتتبعها في المنجز الشعري العربي، بل في جسد
القصيدة نفسها، بالنسبة للقارئ المهتم. ولعل هذا ما يكرس لديه أحياناً أزمة
المعرفة بهذه الظاهرة.
1- من
هنا يمكن أن نحدد وباختزال شديد بعض دواعي اختيار موضوع دراستنا في:
أ-
الحضور المكثف لتيمة الاغتراب في المنجز الشعري العربي.
ب- قلة
الدراسات النقدية الجادة التي تناولت هذه الموضوعة من خلال اعتماد أدوات منهجية
وإجرائية دقيقة، تكشف عن جماليات اشتغالها في الجسد النصي.
ج-
إسهام هذه التيمة في بلورة رؤى ومفاهيم شديدة العمق والحيوية، خاصة وأنها تتحول في
كثير من النصوص الشعرية العربية، إلى دال من الدوال التي تسهم في تحرير المعنى.
2-
وقمينٌ بنَا أن نشير إلى أن بواعث اختيارنا لهذه الكوكبة من الشعراء، نابعة من
قاعدة ترتكز على الكيف لا الكم، بحيث وقع اختيارنا على نماذج شعرية محدودة توفر
لنا مادة للتأمل والتقصي، كما تمكننا في الآن نفسه من وضع أرضية صالحة لاستنبات
المفاهيم والقيم والمبادئ، التي تتناسل عن اشتغال تيمة الاغتراب في شعرنا العربي
قديمه ومحدثه. من ثم فإن النص الشعري يكتسب بالنسبة إلينا قيمة جوهرية حين
يستدعينا هو نفسه، بل يدعونا لممارسة لعبة القراءة المتعددة والمتجددة على جسده.
من هنا كان تقصينا لجماليات اشتغال تيمة الاغتراب في بعض التجارب الشعرية العربية،
نابع عن عشق ولذة اكتناه، ولا تحكمه قاعدة انتقائية، تُفضل هذه التجربة الشعرية عن
تلك، انطلاقا من التحقيب الكرونولوجي.
3- أما
على المستوى المنهجي فقد اتخذت مصاحبتنا للنماذج الشعرية المذكورة، التي تَرْفُلُ
بالاغتراب في تشظياته المختلفة، منحنيين اثنين:
في
المنحنى الأول تعرضنا للأسس النظرية للمفهوم (الاغتراب)، في محاولة لتأصيله، بما
هيأ لنا تجميع إضاءات توسلنا بها في مقاربة النماذج الشعرية المختارة. أما المنحنى
الثاني فتمثل في الإنصات العاشق والمتقصي للنماذج الشعرية المنتقاة، والتوغل في
أدغالها، لاكتناه الملمح الفني الجمالي المرتبط باشتغال هذه التيمة، والوقوف على
ما تُفرزهُ من مبادئ ومفاهيم وقيم فنية وجمالية، في علاقتها بالذات الشاعرة
المغتربة القلقة، ووضعيتها في الزمن والتاريخ والخطاب. وهذا ما اقتضى - منا -
اعتماد مجموعة من الآليات المنهجية لإضاءة اشتغالنا من جهة، والقبض على جماليات
اشتغال هذه التيمة (الاغتراب)، وسطوتها في ثنايا النسيج النصي من جهة ثانية. لذلك
كانت الطريقة المنهجية المتبعة في هذه الدراسة، تكاد تكون متفرقة ومتفردة عن الطرق
المتبعة في الدراسات التي قاربت موضوع الاغتراب في الشعر العربي.
من ثم
فطريقتنا في مقاربة هذه التيمة (الاغتراب) في شعرنا العربي، فتقوم على الأسس
الآتية.
أ-
الموازنة بين الظرف الاجتماعي والنفسي والثقافي والسياسي، وبين الإحساس بالاغتراب
لدى الذات الشاعرة. بمعنى أن جانبا كبيراً من صور الاغتراب في شعرنا العربي
(وبخاصة الشعر المعاصر)، تَتَولَّدُ عن تصادم القيم الاجتماعية بالقيم الفنية –
الثقافية، عبر أنا الشاعر وأنا الإنسان.
- الاسترشاد بالمبادئ الظاهراتية، والبنيوية،
والدلائلية، والأسلوبية، للإحاطة بهذا الدال (الاغتراب) في أبعاده المختلفة
وتجلياته المتشعبة.
ج-
الإفادة في سياق إضاءة بعض القيم والمبادئ والمفاهيم والقضايا المرتبطة بموضوع
الاشتغال من المنهج الاجتماعي؛ من منطلق التفاعل البديهي بين البنية الشعرية
والبنية الاجتماعية. وفي خضم هذا التفاعل المتبادل بين البنيتين (الشعرية
والاجتماعية)، تتولد أبعاد البنية النفسية – الذاتية لدى الشاعر، لذلك انفتحنا على
بعض مبادئ التحليل النفسي للأدب، وصولا إلى إضاءة الرؤية النقدية المتصلة بموضوع
الدراسة.
وانتظمت
هذه الدراسة في مدخل وفصول ثلاثة ؛ إذ خصصنا المدخل لإضاءة مفهوم الاغتراب في
الإبداع الأدبـي، كما حصرنا الفصل الأول للحديث عن ألم الاغتراب الذاتي
والمكاني-الوجودي في الشعر العربي القديم، بينما كرسنا الفصل الثاني لتتبع جماليات
اشتغال تيمة الاغتراب في الشعر العربي المعاصر، من خلال أعمال: "السياب،
البيـاتي، أدونيس، محمود درويش". أما الفصـل الثالث والأخير فقد حاولنا فيه
الكشف عن امتدادات الاغتراب واحتـراق الذات في الشعر العربي المعاصر أيضا، وذلك من
خلال تداخل الاغتراب الذاتي-الوجودي بالثقافي الفكري، في أعمال الشعراء:
"خليل حاوي، محمد السرغيني، عبد الكريم الطبال، بوجمعة العوفي". وختمنا
الدراسة بخلاصة تركيبية لأهم النتائج المتوصل إليها، مع تضمين ذلك ما حققه اشتغال
هذا الدال (الاغتراب) في أبعاده المختلفة، من وظائف (جمالية ودلالية)، في المتن
الشعري المدروس.
إرسال تعليق