وجه إرنست همنغواي : صائد الوعول:إسماعيل غزالي
قد يبدو وجه همنغواي بحريا ، بالمعنى الذي يحيل على أنه أسير غواية البحر كمدمن لصيد الحوت أو كقبطان سفينة لا يبتهج دمه إلا في معترك الأمواج العاتية ، هذه علامة مباشرة لأفق معتاد سطرته روايته " الشيخ و البحر " . العلامة المضمرة التي تتبطن الأولى ، هي أن وجه همنغواي يتواءم أكثر مع ولع القنص ، قنص البراري الموحشة و ليس صيد البحار في الواقع .
ما أشقى أن تكون ابنا لأم موسيقية ، و لأب طبيب ! فبين الموسيقى و الطب رياح جنوبية حارة تتصادم برياح قطبية جليدية ، يصعب الخلاص من اشتباكهما العسير .
منذ سن يافعة ستجمع الألفة بين هذا الوجه المترف بالجراح و بين البندقية ( أول بندقية اشتراها لها أبوه وهو بسن العاشرة ) .
إنها البندقية التي ستحسم نزوع حياته الممهورة بدم الأسفار و الحروب و المغامرات ، و كذلك مماته المأساوي فيما بعد .
خلف الصدى الذي أحدثته الرصاصات البكر لبندقيته ، سيندلع الصدى الأضخم و الأفزع لأول حرب كونية ، و يتطوع فيها همنغواي لصالح الصليب الأحمر ، و هناك ستسقط براءة وجهه باستقباله لأول الطعنات و الجراح ، هذه التي ستؤهله لتاريخ مفتوح من الألم و القسوة و الجنون ، لكن في صمت جَسور لفتى وسيم يستبطن الصراخ المدوي .
لن يلطف من وحشية بياض وجهه إلا اكتشافه الجمالي لباريس ، باريس أوائل القرن العشرين ، ما أن يدخلها كاتب أو فنان أو موسيقي ، حتى تجنح به بشكل شيطاني صوب حدود قصوى ما كان ليتخطاها لولا سحرها الغريب .
هذا السحر سيدمغ وجه همنغواي بالتماعة جديدة لم تكن تشرق في تضاعيفه من قبل .
ستتفحّم هذه الإشراقة الباريسية بحادثة انتحار أبيه ، بفعل طلقة من بندقيته . الطلقة التي سيتردد صداها الفاجع داخل نفق ذاكرته طويلا ...
سيرتج بياض وجه همنغواي أكثر ، و تتغوّل وسامته ، آخذة كتلا هلامية من الألوان المأساوية ، بفعل شلال الدماء الذي سيغسل ملامحه و يلوثها و يصبغها إلى الأبد ، صباغة تستعصي على صابون التطهر .
ففضلا عن دم جرحى و موتى الحرب العالمية الأولى عندما تطوع في إيطاليا ضمن صفوف الصليب الأحمر ، هناك حمرة نجيعية أخرى ستلهب وجهه ، لها علاقة وثيقة بشموس إفريقيا التي حل فيها قناصا مهووسا بالطرائد ( البقر الوحشي و الأسود و الفيلة ...الخ ) . إفريقيا التي ستثخن وجهه بمعنى بدائي ، و يكتنز أثر التصادم بين جنسه الأبيض و أدغال السواد السحري في القارة ذات الألوان العجيبة .
منذ سن يافعة ستجمع الألفة بين هذا الوجه المترف بالجراح و بين البندقية ( أول بندقية اشتراها لها أبوه وهو بسن العاشرة ) .
إنها البندقية التي ستحسم نزوع حياته الممهورة بدم الأسفار و الحروب و المغامرات ، و كذلك مماته المأساوي فيما بعد .
خلف الصدى الذي أحدثته الرصاصات البكر لبندقيته ، سيندلع الصدى الأضخم و الأفزع لأول حرب كونية ، و يتطوع فيها همنغواي لصالح الصليب الأحمر ، و هناك ستسقط براءة وجهه باستقباله لأول الطعنات و الجراح ، هذه التي ستؤهله لتاريخ مفتوح من الألم و القسوة و الجنون ، لكن في صمت جَسور لفتى وسيم يستبطن الصراخ المدوي .
لن يلطف من وحشية بياض وجهه إلا اكتشافه الجمالي لباريس ، باريس أوائل القرن العشرين ، ما أن يدخلها كاتب أو فنان أو موسيقي ، حتى تجنح به بشكل شيطاني صوب حدود قصوى ما كان ليتخطاها لولا سحرها الغريب .
هذا السحر سيدمغ وجه همنغواي بالتماعة جديدة لم تكن تشرق في تضاعيفه من قبل .
ستتفحّم هذه الإشراقة الباريسية بحادثة انتحار أبيه ، بفعل طلقة من بندقيته . الطلقة التي سيتردد صداها الفاجع داخل نفق ذاكرته طويلا ...
سيرتج بياض وجه همنغواي أكثر ، و تتغوّل وسامته ، آخذة كتلا هلامية من الألوان المأساوية ، بفعل شلال الدماء الذي سيغسل ملامحه و يلوثها و يصبغها إلى الأبد ، صباغة تستعصي على صابون التطهر .
ففضلا عن دم جرحى و موتى الحرب العالمية الأولى عندما تطوع في إيطاليا ضمن صفوف الصليب الأحمر ، هناك حمرة نجيعية أخرى ستلهب وجهه ، لها علاقة وثيقة بشموس إفريقيا التي حل فيها قناصا مهووسا بالطرائد ( البقر الوحشي و الأسود و الفيلة ...الخ ) . إفريقيا التي ستثخن وجهه بمعنى بدائي ، و يكتنز أثر التصادم بين جنسه الأبيض و أدغال السواد السحري في القارة ذات الألوان العجيبة .
سيعزز لوثته بدم الطرائد في المستعمرات الإفريقية ، الأحمر الإسباني الذي سيخضب وجهه ، ليس دم ضحايا الحرب الأهلية وحسب ، بل هي دماء الثيران التي كان يهوى متابعة ألعاب مصارعتها . سيبدو كما لو لبس قناع رسام ينجز لوحاته بنجيع هذه الثيران المطعونة و المصروعة . ينضاف إلى نجيع الثيران حمرة أخرى تدمغ ملامح هذه الفترة في وجهه ، هي حمرة البندورة الإسبانية ( كما لو قذف بالطماطم ، سواء حدث الأمر في مهرجان التراشق بالبندورة ، أو في حادثة أخرى ) . هنا يمكن أن نقتنع بأن لهمنغواي وجه ملاكم ( عرف عن همنغواي عشقه للعبة الملاكمة و كان في طور من حياته البكر يصبو لأن يكون ملاكما ) ، بدليل الكدمات التي تزوقه و أثر الحمرة الداكنة التي تلفع بياضه .
كتاب الدم أو تاريخه ، لن يقف زحفه عند هذه الحدود ، و يستفحل أكثر . فإدمان متعة القتل لن تقتصر على وحيش اليابسة ، المفازات و الفلوات و المحميات و الأدغال وحدها ، بل ستشمل وحيش البحر أيضا ، هكذا سينعطف همنغواي إلى تجربة صيد الأسماك الضخمة في الساحل الكوبي ( سمك المرلين تحديدا ) ، و يكشف عن وجه شبيه ببطل رواية " موبي دك " لهرمان ملفيل . الصياد الذي سيواشج وجهه المغامر و البطولي بين زبد الأصقاع البحرية المرعبة و دم الحوت العملاق ، و بين صخب الحانات التي تؤثث الموانئ و المرافئ ...
كتاب الدم أو تاريخه ، لن يقف زحفه عند هذه الحدود ، و يستفحل أكثر . فإدمان متعة القتل لن تقتصر على وحيش اليابسة ، المفازات و الفلوات و المحميات و الأدغال وحدها ، بل ستشمل وحيش البحر أيضا ، هكذا سينعطف همنغواي إلى تجربة صيد الأسماك الضخمة في الساحل الكوبي ( سمك المرلين تحديدا ) ، و يكشف عن وجه شبيه ببطل رواية " موبي دك " لهرمان ملفيل . الصياد الذي سيواشج وجهه المغامر و البطولي بين زبد الأصقاع البحرية المرعبة و دم الحوت العملاق ، و بين صخب الحانات التي تؤثث الموانئ و المرافئ ...
لا يني اندلاق الدم يقف إلا ليندلع من جديد ، مع نشوب الحرب العالمية الثانية التي سيعمل فيها كمراسل ...
لا يمكن إلا أن نتخيل و نحن نتأمل وجه همنغواي ، أشلاء الجنود و هي ترتطم بوعيه و ووجوه الموتى المذعورة و هجرات النساء و الأطفال و ... مجمل كوارث الحرب تتشابك في ظلال داغلة تسوّر وجهه من كل جانب ، لا تستطيع لحيته البيضاء إخفاءها أو تمويهها بالأحرى .
لا يمكن إلا أن نتخيل و نحن نتأمل وجه همنغواي ، أشلاء الجنود و هي ترتطم بوعيه و ووجوه الموتى المذعورة و هجرات النساء و الأطفال و ... مجمل كوارث الحرب تتشابك في ظلال داغلة تسوّر وجهه من كل جانب ، لا تستطيع لحيته البيضاء إخفاءها أو تمويهها بالأحرى .
إضافة إلى هذه المزق من الأشلاء المتطايرة التي تعج بها المسافة بيننا و بين وجه همنغواي ، هناك إيقاع موسيقى تخطه الآلة الكاتبة الخاصة به ، ( الداكتيلو ) . إنه إيقاع مزدوج ، يفتل بين خطين من الأصداء : أصداء ويلات الحرب التي تسكن طقطقات مفاتيح الدكتيلو ( صراخ القتل و دوي القنابل و صخب الغارات و أصوات آلام الجرحى و نحيب النساء ... الخ ) و أصداء حوافر الوعول التي كان يطاردها ببندقيته في براري إفريقيا و كذلك حوافر ثيران المصارعة ، فضلا عن هسيس تموجات الحوت و هدير المناطق البحرية التي كان يصطاد فيها ... ) .
ثمة طيف يجنح بوجه همنغواي إلى علامة منزاحة بعيدة ، هي علامة متخيلة كأنها متخلقة عن أفلام الخيال العلمي ، إذ يبدو صاحب " الشيخ و البحر " في الصورة أعلاه كربان سفينة فضائية ، يخوض حربا كونية من نوع آخر ، هي حرب النجوم .
كيفما كانت الأسباب التي تقف وراء انتحار همنغواي ببندقيته ، سواء ورث قدر الانتحار عن أبيه أو بسبب اضطراب عقلي ألمّ به ، ففي وجهه المأساوي ما يبرر معنى نهايته التراجيدية ، الوجه المضمخ بتاريخ الدم ، لن يكون حتفه إلا دمويا كنتيجة منطقية ، هي خاتمة أراد لها أن تكون بطولية ، شبه عادلة بالأحرى ، فما أظن أن حادثة قتله لنفسه بالبندقية ، إلا اعتذارا للحيوانات البحرية و البرية التي ضلع في قتلها دونما رحمة على طول فراسخ حياته .
إرسال تعليق