قصيدة أحلام مغتالة :
مصطفى ملح
1
كنتُ أحلمُ في صغري
بحذاءٍ جديدٍ،
بوزرةِ صوفٍ كباقي
التّلاميذِ،
أحلمُ أيضاً
بِطائِرَةٍ منْ ورقْ
وكثيرٍ منَ اللّعبِ
العابِثَهْ
غيرَ أنَّ المعلّمَ
يطردُ حلمي ويمسحُ أجملَ أنثى
أصوّرها في هوامشِ
كرّاستي... بِعَبيرِ الزَّهَرْ
آهِ لو كنتُ في صِغَري
بجواربَ مَنْسوجَةٍ
منْ وَبَرْ
وقميصٍ يقيني من
البردِ
لكنَّ بائعةَ الحلمِ
مغلقةُ العَيْنِ
والوَشْمُ في يَدِها
شاخَ
والحُلْمُ يَدْفِنُهُ
اللّيْلُ تَحْتَ رَمادٍ البَشَرْ..
2
.. وأبي
كانَ يضربني حينَ أخطىءُ،
يضربني بعصاهُ التي
كانَ يصنعها من جِراحِ الشَّجَرْ
حينَها كنتُ أزحفُ
نحوَ فراشي وأبكي كَقيثارَةٍ دامِعَهْ.
كنتُ يومئذٍ أعرفُ
اللّهَ جدًّا،
أقولُ لهُ دائماً:
إنَّ هذي القصيدةَ تتعبني،
غيرَ أنّي سأحملها
ثمَّ أصعدُ فوقَ أَعالي القَمَرْ!
3
حينَ كانَ أبي يحرثُ
الحقلَ تتبعهُ عشراتُ الطّيورِ.
يضيء الخريفُ سماءَ
قبيلتنا
بفوانيسَ يُـحْرَقُ
داخلها زيتُ أَفْئِدَةٍ منْ حَنينٍ
فيشتعلُ اللَّهَبُ
المُتَوَتِّرُ برقاً، فَبرقاً...
وكنتُ كَذَلِكَ
أَمْرَحُ في صغري
بمحاذاةِ خمِّ
الدّجاجِ اللَّصيقِ بإسْطبلِ أَحْصِنَةِ العائِلَهْ
حَشَراتُ العَشِيَّةِ
أَصْطادُها بِارْتِعاشِ يَدي
بِالحَصى..
والمَواويلِ.. والرَّمْيَةِ القاتِلَهْ..
ثُمَّ كنتُ أهيِّجُ
كلبَ الرُّعاةِ
فَأَرْميهِ كلَّ صباحٍ
بِأَتْرِبَةٍ وحَجَرْ..
كانَ ينبحُ؛
كانَ كذلكَ يوقظُ في
جسدي أَلْفَ جَرْوٍ عَنيفٍ؛
جِراءُ الغَريزَةِ
أكثرُ عنفاً،
تُصَرِّخُ في غَضَبٍ
ثُمَّ بَعْدَئِذٍ تَنْفَجِرْ..
كنتُ أَيْضاً أساعدُ
جدّي: أُقَشِّرُ جِلْدَ خُرافاتِهِ
للحفاظِ على لمعانِ
بطولتها
والحِفاظِ على سِرْبِ
غيلانِها
حينَ تَنْبَحُ تَحْتَ
المَطَرْ!
4
ولأنّ خريفَ الطّفولةِ
أكثرُ ريحاً
لأنَّ الطّبيعةَ أَقسى
لأَنَّ الإلهَ كما
أَخْبَرَ الجَدُّ: أعلى وأعلى وأعلى،
فقدْ كنتُ أَصنعُ من
وَحَلِ الطُّرُقاتِ
تماثيلَ شتّى لِصَفْصافَةٍ
وُلِدَتْ في حقولِ العُمُرْ !
5
كنتُ أحلمُ في صغري
بجناحٍ خفيفٍ كباقي
العصافيرِ في الحَقْلِ،
كنتُ أقولُ: لماذا
تفرُّ الحمائمُ من قََبَضَاتِ يَدي،
وتهاجرُ أعلى
فأعلى...؟
وكانَ أبي حينَ يحزنُ
يتركني في السّريرِ كقطعةِ ثلجٍ،
كظِلٍّ بِزاوِيَةٍ..
أوْ مَمَرْ،
ثُمَّ يدفعُ أمّي
لتبحثَ عن فرحٍ نائِمٍ تَحْتَ عُشِّ القَدَرْ..
كانَ يروي لنا قصصاً،
غيرَ أنَّ ليالي
الشّتاءِ الطّويلةَ تطرقُ بابَ القصيدةِ،
لمْ تكُ في بيتنا أيُّ
مدفأةٍ،
أو كتابِ عروضٍ،
ولمَ تكُ ثمّةَ
كِسْرَةُ حُلْمٍ ولا دَمْعُ أُغْنِيَّةٍ.. أو صَهيلُ وَتَرْ..
غُرَفُ البيتِ
دائِمَةُ البردِ دائمَةُ الحزنِ،
لكنّني كنتُ يومئذٍ
أعرفُ اللّهَ جدّاً
أقولُ لهُ دائماً:
إنَّ هذِي القصيدةَ تتعبني،
غيرَ أنّي سأحملها
ثمَّ أصعدُ فوقَ أعالي القَمَرْ!
6
حينَ تغسلني في
البُحَيْرَةِ أمّي
وتدلكُني بيدينِ
حَنونَيْنِ نّاعمتينِ،
تُطِلُّ عليَّ ابنةُ
العَمِّ،
تقرأُ عُريي الخجولَ
المُبَعْثَرَ حرفاً فَحرفاً
أَمامَ عُيونِ
النَّهارِ،
وكانتْ خَديجَةُ
تكبرني بثلاثينَ حلماً وتفّاحتينِ على صدرها!
كنتُ أحلمُ لو يسعُ
الماءُ ماءُ البُحَيْرَةِ
جِسْمي وجِسْمَ
خَديجَةَ
كَيْ نَتَغَنّى مَعاً
فَرَحاً بِاحْتِلالِ خَليجِ الصِّبا،
بِأَكُفٍّ تُصارِعُ
مَوْجَ الرِّياحِ.. ولا تَنْكَسِرْ!
7
آهِ لو سمحَ
الدَّهْرُ.. ما ذَبُلَتْ شَجَراتُ العُمُرْ!
إرسال تعليق