قصة قصيرة :حمّام قــمر.. ميمون حِـرش
منذ أن نجا الشيخ من الموت بأعجوبة بسب عملية خطيرة في القلب تغيرت طباعه كثيراً، ومن عرفه من الأصدقاء، والأقرباء، قبْلا، يجزمون أن الرجل فقد عقله، وليس لأن الطبيب استبدل قلبه المريض بآخر ليست به قروح كما يزعمون..
منذ أن عاد من المشفى باتت تواتيه رغبات شاذة في الأكل؛ آخر وجبة ، اليوم ، تناولها هيأها بنفسه، عبارة عن " بيصارة" مع معجون أسنان...
زوجته المقعدة كانت ترقبه وهو يتناول وجبته.. تصرف كما لم تكن قبالته ، ولم يكلف نفسه دعوتها لتشاركه " الملح" كما كان يفعل .. صمته زاد من مخاوف أهل البيت، والشيء الوحيد الذي يطمئنهم هو أنه يتعرف أولاده واحداً، واحداً، ولا يخطئ في اسم أحد حين يناديه به.. و هذا كافٍ ليقلب الموازين أكثر لأنه، قبل العملية، كثيراً ما كان يخلط بين أسمائهم..
الأيام بعد عودته من المشفى سالماً تنثال بغير طعم.. تتنخل من بين أكف الزمن ، والشيخ حاضر يملأ ببركته أكسار البيت ؛ الأولاد، والأحفاد ، من حوله،حبات رمل يجتمعون به في آخر الأسبوع، و في أيام العطل يزدادون.. يتحلقون به ، وهو إلى جانبهم يقضي يومه يتمتم، يتفرس في سحناتهم وهو يمسك مسبحته.. وحين يرفع يده، ويشير بسبابته .. لا أحد يدري أيحسب حبات سبحته، أم أحفاده.. أم سنين عمره..؟!..
لا يستيقظ مبكراً أبداً مثل الشيوخ في مثل سنه.. وتأخره في الصحو مراراً، وليس الاستيقاظ، سبّب هلوسات لزوجته، ستستفحل أكثر حين قالت له يوما بكل رقة:
-
"الفياق بكري بالذهب مشري" أسيدي الحاج.. تشجع ، فرك عينيك، وحاول أن تصحو..
لم يجبها حينها،حدجها بنظرة حادة، ثم اكتفى بأن تفل على جنبه الأيسر، تماماً كالحالمين بكوابيس مزعجة، ولكنه بحضور الأولاد سيقول لها :
-
شدي أذني مرة أخرى إذا تأخرتُ في النوم آ الوالدة"..
ستصعق الزوجة، أما الأولاد فقد عزوا ذلك إلى الحس الكوميدي لدى الوالد، لقدعرفوه فكهاً، منافثاً..، في مجلسه كان يطرب بنكاته ما لا تطرب المثالث.. لذلك ضحكوا للموقف كثيراً، بل عدوا ذلك أمارة شفاء بعد سوء ظن.. إنه أبوهم ويعود سيرته الأولى بقلب غيره..
وتمر الأيام...
يطمئن الأولاد أكثر على صحة الوالد، وتزداد شكوك الزوجة لا في الشخص الذي يشاركها الفراش، بل في القلب الذي يحمل.. ؛ فيما بعد، ستُحمله كل المسؤولية لما آل إليه زوجها .. ولم تكن تعلم أن قلب الشيخ بات ينبض بشكل أحسن،بل يبدو أنه استمرأ جوانح جسد إنسان آخر.. و حتما هو قلب شاب في العشرين من عمره.. فمن كان يتصور أن يتقدم الطب بهذا الشكل، وتصبح الأعضاء مثل قطع غيار تصلح لأن تأخذ أمكنة غيرها، وتحت الطلب، و بأثمنة خيالية..
في غياب الأولاد تظل الزوجة تراقبه وهي جاثية فوق كرسيها المتحرك، لا تفتأ تقارن بين الذي يقف أمامها، وبين زوجٍ قضت معه سنين عمرها.. الجثة واحدة،لكن الرائحة كما تسميها ، والتي تنبعث منه ليست ما تعودت عليه أبداً..
لكن هذا اليوم بالذات، ووجبة البِصارة مع معجون الأسنان لم يكن ليمر دون أن يترك أثره.. كان الهدوء يخيم على البيت بشكل مقرف، وصمت الشيخ يضفي على البيت وقاراً من نوع خاص..لا حسيس سوى خطوات الخادمة تملأ البيت ذهاباً وإياباً....
وستغرب الشمس على صمت ثقيل، صحب معه من السماء أو من مكان ما وصفة للشجن؛ كان الأولاد قد انتشروا، كل في أرضه ينكت، وفي سيبل غلته يسعى.. بقي الشيخ في البيت رفقة زوجته المقعدة كما العادة،وكغريبيْن لم يتبادلا كلاماً كثيراً..
قالت
الزوجة بود :
-
هل أطلب من الخادمة أن تهيئ قهوتك قبل أن تغادر..؟
ببرود
رد عليها :
-
لا أرغب سوى في شرب الهواء، في كأس من البلار ...
قال ذلك وصعد إلى غرفته بهدوء الشباب، لم يعد يلهث كما سابقاً.. دار دورات حول نفسه كعريس يجرب نفسه كيف سيبدو أمام الناس، فتح خزانة ثيابه، وحمل معه وهو يهبط السلم كل جلابيبه..تأبط بعضها، فيما الأخرى حملها على ظهره، خرج من الباب دون أن يلتفت لنداء الزوجة.. كانت الصدمة بالنسبة لها قوية لم تتوقعها أبداً، حركت كرسيها بصعوبة، تبعته دون أن تدركه.. الدموع تنهمر من عين بصيرة، غير أن أرجلها قصيرة، ولم تعد تسعفها، خافت أن يغادر.. وإلا لماذا يحمل ثيابه، ثم ما الذي يحمله على الرحيل.. الأولاد، منذ مرض، يدللونه كطفل صغير، بل منهم من كان يحمله، ويلاعبه رغم كبر سنه..
همست بحرقة :
" يا ربي، سأصبح أضحوكة بعد هذا العمر... سيقولون (ها) استعاد عافيته و هرب منها لأنها مُقعدة.. وسيقولون، وسيقولون.. يا ويلي..
من الباب كانت ترمقه ونفسها حرى..
في الخارج كانت السماء تتهيأ لأن تنشر مساءها القمري..؛ رنا الشيخ إلى السماء، وترك رأسه تدور في صفحتها، كطفل يتتبع طائرة ورقية أطلقها في الهواء.. كم وقت مضى على وقفته تلك.. ربما قليلا، لكن الصمت الذي أعقبه كان ثقيلا بالنسبة للزوجة، وحاراً بكل المقاييس... كان الليل قد بدأ يعلن سلطته، وزاد من وحشة المكان كلب في زاوية حديقة البيت يعوي بشكل مختلف، وزوجته من الداخل، غير بعيدة عنه كثيراً، ترمق الشيخ والكلب معاً، اعتبرت نباح الكلب بهذا الصوت نذير شؤم، كانت تردد المعوذتين كلما نبح.. والشيخ بدا قبالته، وهو مثقل بما يحمل، كمهرج راضٍ عن أدائه....
تنفس الشيخ الصعداء بعد أن عب نفساً قوياً،ملأ به خياشيمه ، ثم بدأ يتخلص من أثقاله، نشر على أرض الحديقة جلابيبه، جعلها تشكل بساطاً مزركشاً على شكل مربع، أضفى جمالا آخر على حديقة البيت.. بدأ يحوم حولها كما الهنود يفعلون مع نارهم، مركزاً نظره على السماء، كان حريصاً أن تستقبل جلابيبه مكان بزوغ القمر.. وحين مال بنظره إلى الكلب ( اللحظة فقط أحس بوجوده)، ابتسم، ثم واتته رغبة قوية في أن ينبح.. رفع صوته،بيْد أنه لم يتمكن من بحة أعاقته..لكنه قال لنفسه:
« لا جدوى من تقليد الكلاب، على الأقل اللحظة، لقد انتهيت من التفكير الآن "
كان يقصد ربما عمله، نفض يديه بعد نشر جلابيبه ثم عاد إلى الداخل منشرحاً..خفيفاً كنسمة..
كانت الزوجة قد قامت بالواجب، لم تكن تطال شيئاً سوى أن تتصل بالأولاد عبر الهاتف..
حضر أغلبهم بسرعة.. استغربوا فعل الأب.. سأله أوسطهم بحزن:
-
هل أنت بخير أبي ..هل تشكو من شيء؟
زاد
الآخر :
-
استبد بنا القلق أبي فور اتصال الوالدة، هل نتصل بطبيبك.. ؟
-
قال الثالث مستفسراً :
-
أنت نشرت جلابيبك في هذا الليل أبي؟
ضحك ورد
:
-
إنني أعرضها لحمّام قمر....
أضاف
آمراً :
-
جميع من في هذا البيت في حاجة لحمّام قمر، إنه صابون القلوب، سيطهركم من الداخل..
(....)
سيموت الأب،
وسيعيش الأولاد ما
بقي لهم راعين
قرص القمر في دورته.. يتعرش
دوالي في عيونهم،
يكبر في سمائهم،
ينبت في أرضهم لينير لهم الدروب،
وينشر الضياء في
قلوبهم ..
إرسال تعليق