تدمير المكتبة العامة في الموصل :د. سيّار الجميل
يا له من عار وشنار أن يتم تدمير مكتبة عامة تضم
الكنوز .. يا لها من خسة عصر هجين أن تخرب مدينة عرفت بحضاراتها منذ فجر التاريخ !
أي جريمة لم يمحها التاريخ أبدا ارتكبها حكام عراقيون عندما تسقط مدينة عراقية عريقة
كالموصل بأيدي متوحشين لا يعرفون أي قيم ! ماذا أبقت داعش في هجمتها البربرية على الموصل
وقد أحرقت ودمرت واستأصلت اهلها القدماء ؟ يا أسفي على تلك الكتب القديمة والخرائط
والسجلات التي تعود الى عهود العثمانيين ! ان تدمير المكتبة العامة هو واحد من مخطط
بشع لتدمير كل مكتبات الموصل وسحق رموزها ومحو تاريخها وحضارتها العريقة .
نعم ، يعد تدمير المكتبة العامة في الموصل عملا
بشعا ، وهي من امهات المكتبات العراقية التي تضم الآلاف المؤلفة من الكتب والمخطوطات
والوثائق التي جمعت وحفظت بين جدرانها على امتداد القرن العشرين ، ولقد كانت تلك
" المكتبة " الرائعة تحترز على اكثر من مئة الف كتاب ، ولما يزيد على
8,000 من النوادر والمخطوطات والصحف القديمة ، عدا آلاف الكتب المتخصصة العلمية والادبية
والتاريخية والمترجمة . لقد جرى تدميرها في شهر شباط / فبراير الماضي 2015 باستخدام
عبوات متفجرة ، فتهدمت واحترقت كل الخزائن العامرة . ولا اعتقد ابدا بأن مظان المكتبة
قد صورت او حفظت نسخ مصورة منها ، كما كنت قد ناشدت المسؤولين قبل سنين ! واذا كانت
المكتبة العامة بالموصل قد اصابها هذا المصير المؤلم ، فان ما جرى للمكتبة المركزية
في جامعة الموصل لا يقل ايلاما وحزنا على البربرية التي اتبعت في حرق محتوياتها العلمية
كاملة ايضا ، والتي جلبت من انحاء مختلفة من العالم ! فضاعت ثروة علمية وحضارية لا
تقدّر بثمن ابدا
!
وقفة عند تاريخ المكتبة العامة :
كانت "المكتبة العامة في الموصل" قد أنشئت
مع ولادة العراق عام 1921، باسم المكتبة العمومية وبجهود مضنية من قبل بعض المثقفين
الموصليين المستنيرين وعلى رأسهم جدّي الاستاذ علي الجميل الموصلي 1889- 1928 ، ولقد
جاء في جريدة الموصل بعددها المرقم 218 الصادر بتاريخ 5 كانون الثاني 1921 م ، ما يأتي :
" أرسل حضرة الاديب علي افندي الجميل الى
دائرة المعارف ما يأتي : حضرة ناظر المعارف المحترم ربما كانت اعمال الرجال اكبر برهان
على هاماتهم وصفاء طويتهم ، وقيام رجال المعارف المحترمين بتأسيس مكتبة لابناء الحدباء
ما يوجب الشكر لهم والثناء عليهم ، اذ ليس السعي في سبيل إحياء العلوم ونشر المعارف
في محيط الإجهاد في سبيل إحياء ابنائه وبث روح المدنية والعلم فيهم وحثهم على التدرج
في مدارج الكمال . ثم لا حاجة لإبداء الشكر على ما نراه من افكارك السامية واعمالك
الجليلة في رفع شأن المدارس منذ واصلت ام الربيعين .. فحياك الله وبياك وجعل اعمالك
مقرونة بالنجاح خالدة على صفحات التاريخ . وأني اتشرف الآن بتقديم 15 قطعة من الكتب
المختلفة هدية لهذه المكتبة الجليلة التي آمل إن شاء الله تعالى ان يتسع نطاقها بهمتك
بعد قليل من الزمن راجيا قبولها وقبول شكري الصميمي الموشق برائق الاحترام علي الجميل ".
وقد اسندت ادارتها لأخيه الاستاذ جميل افندي الجميل
1991- 1972 ( وهو ابو الدكتور غازي جميل طبيب العيون الشهير في بغداد سابقا والمقيم
في لندن حاليا ) ، وكان الاستاذ جميل افندي قد عمل ليل نهار على تأسيسها في ثماني سنوات
من ادارته لها ، منبثقة عن نظارة المعارف في الموصل ، وكانت بنايتها تقع في باب الطوب
بقلب المدينة القديمة ، وضمّت لأول مرة كتبا ومخطوطات تعود في الاصل لأسرة آل الجميل
، فضلا عن اعمال اصيلة تعود الى القرن الثامن عشر وكتبا بالسريانية كانت قد طبعت في
اول دار للطباعة في العراق إبان القرن التاسع عشر، فضلا عن كتب الحقبة العثمانية، وهناك
مجموعات نادرة من الصحف تعود الى أوائل القرن العشرين ، فضلا عن اوراق وسجلات نادرة
.. لقد تم التأسيس في العشرينيات ،اذ بقي جميل الجميل يديرها بين 1921 – 1928 ، وقد
تركها عام 1928 لينتقل الى بغداد وينخرط في كلية الحقوق .. وبعد أشهر من ذلك أصدرت
(مديرية المعارف) امرأً بتعيين الاستاذ التربوي أحمد محمد العبد الله الملقب بـ (أحمد
نيلة)( توفي 1994 ) والذي عدّ أقدم مكتبي عراقي ،لأنه استمر 42 عاما في إدارة المكتبة
، وبعدها ادار مكتبة الدكتور داود الجلبي لسنوات . وكان رئيس البلدية الحاج حسين جلبي
حديد ( ابو الاستاذ محمد حديد وزير المالية المعروف ) ، قد قام عام 1929 بنقل المكتبة
الى بناية تقع قرب بلدية الموصل وحديقتها عند نهر دجلة ، ولقد أسميت بمكتبة الملك غازي
بعد ان تولى غازي عرش البلاد ..
وفي العام 1951 ، ضاقت المكتبة على رحبها بزوارها
، فتم إنشاء بناية جديدة لها تقع بين مبنى متصرفية الموصل وبين مبنى المحاكم الحالية
قرب حديقة الشهداء ومتحف الموصل ، وقد نظمها مديرها احمد نيلة واعتنى بها ، فكثرت الكتب
الجديدة بالعربية والانكليزية ولغات اخرى مع اشتراكات بالمجلات العديدة من مختلف بلدان
العالم . وفي العام 1957 انقطعت صلة المكتبة بمديرية المعارف ، وضمت إلى الإدارة المحلية
التابعة لوزارة الداخلية . لقد كانت بناية المكتبة جميلة بحدائقها ، اذ بقيت تستقبل
اجيالا من المثقفين والطلبة وهي في مكان جميل جدا وامامها بحيرات صناعية تمتد من حولها
شاذروانات يستأنس بالجلوس حولها كل الزائرين .. ولكن نقل المبنى من جديد الى الساحل
الأيسر بالقرب من جامع النبي يونس موقعها الحالي في عام 1978 وتولى إدارتها الأديب
عبد الحليم اللاوند . وعرفت لاحقا بالمكتبة المركزية العامة .
وتضم المكتبة ايضا بعض التحف القديمة كالاسطرلابات
والرمال الزجاجية المستخدمة قديما .. ولقد استضافت المكتبة خزائن شخصية لأكثر من
100 من الأسر البارزة من الموصل خلال القرن الماضي واستمر رفدها بكتب ومأثورات من قبل
اهالي المدينة ومثقفيها . وتتألف من اربعة أقسام ، قسم يضم الخزانة الكبرى والخزانات
الشخصية وهي اكثر من مئة خزانة شخصية وعائلية... وقسم المراجع العربية والأجنبية وقسم
يضم النوادر والدوريات والصحف القديمة والسجلات والاوراق الخاصة والكتب النادرة وصحف
الأنظمة السابقة والوقائع العراقية كاملة ومخطوطات نادرة يعود تأريخها إلى قرون خلت
. وقسم الصيانة وتجليد الكتب والادارة .
خراب المكتبة وإعادة الإعمار
تعرضت المكتبة الى عمليات سلب ونهب عقب سقوط النظام
السابق ، اذ حلت بها المأساة الاولى يوم 10/4/2003 ، اذ استبيحت وسرقت بعض موجوداتها
، فهب المخلصون لنجدتها وتمكنوا من الحفاظ على الخزائن وحراستها ، وقام البعض بشراء
ما وجدوه في السوق من مسروقاتها بدلالة اختامها واعادوها اليها ! واغلقت المكتبة لسنوات
.. وقد تم إلحاقها بوزارة البلديات والاشغال العامة ..– كما ذكر نوزت شمدين نقلا عن
مديرها المرحوم قصي حسين آل فرج - . لقد كنت اتمنى اقتناء اجهزة تصوير لتصوير واستنساخ
كل النوادر والصحف القديمة والسجلات والاوراق والمطبوعات القديمة لحفظها من التلف
.. ولم اكن ادري ان القدر سوف لن يمهل المكتبة الا قليلا لكي تبيدها وتدمرها جماعة
متوحشة اتت في غفلة من التاريخ ، لتهيمن على الموصل وتقبض على انفاسها وتدمر حضارتها
وتحرق مأثوراتها وتمحي نوادرها القيمة التي لا تقدر بثمن .. لم اكن اتخّيل ان يصل التوحش
الى حد احراق مكتبة يعتز بها اهلها كامل الاعتزاز .. ذهبت هباء منثورا في زمن صعب وقد
لاذ الجميع بالصمت ! ان تدمير المكتبة العامة هو افناء لتاريخ نهضوي وثقافي وحضاري
رائع تعب من اجله المستنيرون والعقلاء والاصلاء ، ولكن ارادة الشر التي يحملها المتخلفون
والجهلة والمتعصبون كانت اقوى بكثير من احلام النهضويين المستنيرين الحقيقيين ..
انني اذ اكتب هذا " المقال" لا يسعني
الا ان اذكر جهود مسؤولين سابقين عملوا ليل نهار على اثراء مكتبات الموصل العريقة
: المكتبة العامة والمكتبة المركزية الجامعية ومكتبة المتحف الحضاري ، وهم الدكاترة
محمد صديق الجليلي وداود الجلبي ومحمود الجليلي والاساتذة المؤرخ سعيد الديوه جي (
الذي اعتنى بفهارس المكتبات ) وناثرة الصراف واحمد نيلة وعبد الحليم اللاوند وسالم
عبد الرزاق احمد والدكتور احمد عبد الله الحسو وقصي حسين آل فرج والدكتور عدنان سامي
نذير ( فك الله محنته ) وغيرهم . رحم الله من رحل منهم ومنح العمر المديد لمن هو على
قيد الحياة .
* مؤرخ عراقي مغترب
إرسال تعليق