ارتبط اسم فيتنام في ثقافة العرب
وغيرهم من شعوب العالم بكلمتين رئيسيتين، وهما "الأندوشين"، و"هو
شي منه"، ومن خلال رمزيتهما، كان يبدو، بكثير من البهاء، شموخ هذا البلد،
وغنى ثقافته... لذلك فكثير من الناس، إن لم يعاينوا رقعة من "أرض الزحام"
المنظم كذلك، فهم اكتشفوا أسرار الفيتنام، هوية، وتاريخا، وحضارة.. وصلابة.. في
أفلام "الأكشن" الأمريكية الإنتاج.
لم
أتصور ربما كغيري ممن كتب لهم أن يزروا هذا البلد العريق، أن أصل يوما إلى هذه
الأصقاع البعيدة من الوطن، بُعد السماء عن الأرض، لأعود من المشرق الأدنى إلى
المغرب الأقصى، وفي ذاكرتي ثلاثة مشاهد تستحق أن تحكى، مشهد "السطوح"،
ومشهد "الهاتف"، فمشهد "المكافأة".
إحساس
غريب ذلك الذي انتابني وأنا أنزل من الطائرة على مدرج مطار العاصمة "هانوي"، عمقه فرح وظاهره اندهاش...
فرح استنشاق عبير أرض ثوار قهروا الفرنسيس والميريكان.. واندهاش سلاسة تدبير الزحام
بوطن الأحرار...
كانت الطائرة وهي تحلق على علو منخفض فوق سماء مدينة "هانوي"،
استعدادا للهبوط الآمن، تعطينا، من خلال إطلالة خاطفة إلى الأسفل من نافذتها
الصغيرة، نظرة بانورامية، حول عمارة هذه الأرض المسكونة بالتراث والحكايات
والأساطير.. والمنفتحة، بوعي، على حضارات عالم متحرك..
كم
كان لافتا أن تجد على أسطح البيوت هنا بـ"هانوي"، كل البيوت، سخانات الطاقة
الشمسية، وقد شغلت أمكنت تعليق اللاقط الهوائي.. إنه الاختيار الواضح والصريح بين
شعوب ركبت على تردد المسلسلات، وشعوب ركبت مصعد منحى الاقتصاد.
ببهو
فندق نزولنا، كان طبيب فيتنامي يحمل هاتفا محمولا بغلاف جميل، سألته عن محل بيع
تلك الأغلفة – التذكار، فأجابني بفرنسية المبتدئين، بأنها لا تباع ولكن تصنع عند
الطلب تقديرا لجودتها و قيمتها، قبل أن يمدني بعفوية طيبوبة المواطن الفيتنامي،
بعنوان محل الصانع.
طلعت
شمس صباح فيتنامي جديد وأنا ببلاد "الأندوشين"، واستقلت في ساعة حرة سيارة
أجرة، أخذتني بين شوارع "هانوي" على مسافة عشرة كيلومترات وسط زحام
منظم، كل شيء هنا هو حكاية تستحق أن تحكى، بدءا بما قيمته دولار واحد، عمولة سيارة
أجرة هذه الرحلة الموثقة بفاتورة الأداء.
نزلت
وأنا الغريب في مكان أشبه بـ”درب غلف” (سوق شعبي للاكترونيك) بالدار البيضاء يدعى
"هو شي منه"، مكان عريض فسيح مكتنز بمحلات تجارية ضيقة جدا، هنا "هو
شي منه"، هنا كل شي يباع.. وقد توجهت الى المحل المقصود، لأجده بعد هياط
ومياط..
في
محل صغير جدا وسط زقاق ضيق.. أثار انتباهي وجود أحذية مركونة على بابه، عندها أدركت
أن دخول الدكان، مشروط بنزع الأحذية، إنها علامة من علامات قدسية العمل ومكان
العمل عند المواطن الفيتنامي.. ليعود بي هذا المشهد إلى وصية كنت تلقيتها من والدي،
رحمه الله، وهو مقاوم عاصر عهد حرب "لاندوشين" كذلك، أوجزها في جملة
قصيرة المبنى عظيمة المعنى بقوله: "عليك يا ولدي بتقديس العمل".
لم
يكن صاحب هذا الدكان، سوى شاب عشريني، توجهت إليه وأخرجت هاتفي، لأسأله عن الغلاف
الفيتنامي.. رد بلطف شديد قائلا: "لا أبيعه بل أصنعه"، قلت كم يكفيك من
الوقت لذلك؟ قال ساعة كاملة، نبهته أنني مغادر فيتنام مساء، قال: "عد إذن بعد
نصف ساعة".
فتح
الصانع الكومبيوتر وشرع في تصميم الغلاف في أبعاده الثلاثة بعدما اخترت اللون.. قبل أن أنصرف لتزجية الوقت في هذا السوق الكبير
العريض المزدحم.
لم
ينتبه لوجودي أحد.. لم يعرض علي أحد سلعته.. ولم يسألني أحد عن اسمي أو سر مقدمي..
كنت عند الناس ربما رجلا غريبا عن المكان، يطوف شوارع مدينة "هانوي"،
يمشي واثق الخطى في أمان وانبهار.
لم
يعترضني متسول ولم يقدم لي خدمة بائع متجول، وحدها الشوارع الفسيحة والزقازيق
الضيقة تعترض خطواتي بنظافتها ونقاء عبقها.. نقاء معابد "هانوي" وهواء
أعالي فيتنام، قبل أن أعود إلى دكان الصانع، وقد أنهى صنع غلاف الهاتف، أديت الثمن
، وانصرفت في هدوء باحثا عن طاكسي الرجوع إلى الفندق.
في
سيارة الأجرة، لم يسألني السائق، لا عن أصلي ولا فصلي ولا عن سر وجود عربي في بلاد
الفيتنام.. كان السائق يسوق السيارة بهدوء متحاشيا آلاف الدراجات النارية، موقعا
على رحلة وصول موفقة إلى الفندق.
كما
كان مفاجئا أن تكون تذكرة الإياب أرخص من الذهاب، سألته مستفهما وفي يدي الفاتورة،
فرد، مبتسما في وجهي، وقال لي بمكر: "إن هذه السيارة إيكولوجية، وتستهلك
بنزينا أقل، وأثار انتباهي إلى بطء سيرها في الشوارع، مما يقلل من استهلاك الوقود"،
فتنبهت آنذاك إلى أن لون السيارة كان أخضر، وأن لون ربطة عنق السائق كانت خضراء
كذلك... إنه وجه من أوجه تقديس
العمل واحترام الحق في البيئة عند الفيتنامي..
نحن
الآن في سيارة مضيفنا وهي تقطع المسافات في اتجاه مطار وداع "هانوي"..،
في الطريق اقترح علي رفيقي أن نتخلص مما بقي في جيوبنا من عملة محلية بإعطائها
للسائق، بيد أنه بمجرد اكتشافه لنوايانا، سيؤدي مهمته ويقفل راجعا، أو قل هاربا.
داخل
المطار، طلبة متطوعون في خدمة الوفود والضيوف.. مررنا كالسهم على كل الإجراءات..
ذكرني رفيقي بما تبقى في حوزتنا من العملة الوطنية المحلية "الدنغات"..
تناقشنا مع الطلبة في كل المواضيع (عطالة الشباب، قلة فرص الشعل…). وفي لحظة،
اقترحت على أكبرهم أن يأخذ مني هدية عبارة عما تبقى عندنا من "دنغات"،
رفض بلياقة، اعتقدنا معها أن الأمر لا يعدو أن يكون ممانعة، ليقول بلطف: كم بقي
عندكم؟ قلنا: 200 ألف دنغ (10 دولارات)، إصفر وجهه وقال: "لا هذا كثير،
يمكنكم أن تشتروا بها هدايا من المطار"..
ودعنا
هؤلاء الطلبة المياومين، بلطف كبير، وقال أكبرهم: هل يمكن أن نطلب هدية؟ أجبنا
بالإيجاب، قال:"هل يمكن أن نأخذ معكم صورة تذكارية". وقفنا.. ابتسمنا..
وتحسسنا "الدنغات" في جيوبنا...
*كاتب
مغربي
إرسال تعليق