إن الحديث عن المشهد القصصي
بالمغرب و عن تحولاته الكبرى يدعونا إلى الوقوف مليا عند تجربة القاصة لطيفة
لبصيرالتي استطاعت أن تحقق حضورها اللافت ، و أن تشكل نقطة ضوء ساطعة تنير مسالك
الكتابة القصصية من خلال انخراطها في مشروع التحديث و المساءلة النصية لقضايا تهم
الإنسان بشكل عام ، و من خلال رهانها على التقاط التفاصيل الدقيقة التي تختزن في
داخلها هموما يتماهى فيها الفردي بالجماعي و الواقعي بالتخييلي ، متوسلة بطاقة
حكائية عدتها التكثيف و التركيز و عتادها
التأمل و الكشف ، صاحبة "رغبة فقط " و "ضفائر"و"أخاف من
"و "عناق" جديد إصداراتها تستهويها عوالم الحكي ، و تدعو قارئها
إلى الانخراط في هذا الرحيل المتخيل مراوغة أفق انتظاره حينا معلنة عن المفاتيح
السرية لإدراك الدلالات الكامنة خلف الخطاب حينا آخر ، و سنحاول في هذه المقاربة
معانقة "عناقها" علنا نقترب من
أسراره و خباياه.
1- العناق بوصفه أيقونة و دالا رمزيا
يحضر العناق بشكل قوي في المجموعة القصصية ،
بحيث لا يخلو نص من نصوصها منه سواء بلفظه أو بمرادفاته، غير أنه يمارس تحايله
الجمالي على أفق انتظار القارئ بحيث يتجاوز دلالته القريبة المختزلة في الفعل
الميكانيكي المفترض بين جسدين ليتلبس بدلالات أكثر عمقا تجعل منه توقا جماليا و
نفسيا إلى السلام و الأمان و التآزر، و عطشا دفينا إلى دفءمفقود في واقع انهكه
الزيف وسطوة الأقنعة و برود العواطف الإنسانية، لذلك نجد تجليات هذا الفعل موزعة
بين الأم و الطفلة "كنت في حاجة إلى
أن تضمني أمي في ذلك اليوم لكنها لم تفعل "(1) و الزوج و الزوجة "كنت
أراه معي و أستعيد ذراعيه القاسيتين"(2) و العينين"كنت أعانقها بعيني
فقط"(3) و الكتب و الأفكار"كان أبو العلاء المعري يعانق الجاحظ ليس يدري
لماذا يلثم الكتابان بعضهما"(4) و اللوحات"هل سبق أن رأيت لوحة عناق
للفنان البولندي بيشينيسكي"(5) و النباتات"كانت الألياف تنحني على بعضها
محدثة عناقا غريبا"(6) ، و بذلك تثير المجموعة دال العناق الرمزي باعتباره
فلسفة و رؤيا للحياة و ظمأ للدفء في العلاقات الإنسانية .
2- العناق بوصفه بؤرة موضوعية رمزية
تراهن المجموعة القصصية "عناق" على
تيمة مركزية محورها الوشائج و الصلات الإنسانية حيث ينخرط السرد في لحظات تأمل و
كشف عميقة تستبطن أغوار النفس الإنسانية و تسائل هذه العلاقات التي كساها البرود و
النظام القاتل الخالي من دفء العواطف ، المشرع على الرتابة و الملل و الحزن لتخوض
الذات معترك الرفض و التمرد على هذا الوضع عدتها انسياب الحكي و التقاط اللحظات
النفسية عبر استبطان ما يعتمل في نفوس الشخصيات ، و ما تنبئ به الأحداث من مفارقات
صادمة بين الكائن و الممكن ، فيتحول العناق إلى رهان تحاول الذات عبر السرد بلوغ
سقفه الرمزي ، و مطاولة ما يستوجبه من دفء مفقود، و يتكئ هذا الاختيار الموضوعاتي
على العودة إلى عوالم الطفولة باعتبارها ملاذا تلجأ إليه الذات الساردة
لمعانقة عوالم البياض و الحلم و البراءة ،
و إن كانت تتقاطع في كثير من اللحظات مع ما تعيشه الذات في زمن النضج، ليتحول
الحرمان و البرود و قساوة النظام القسري إلى إحساس يطاردها في الزمنين معا ، ففي
نص "الدعسوقة" يتداخل الزمن الطفولي بزمن النضج ،و يقتسم الزمنان سطوة
المنع و النظام القسري و برود العواطف ، و تتوق الذات إلى كسر هذه الحواجزعبر
الحلم و التخييل ،عبر الصراع و القهقهة أو ما يعادل السخرية السوداء "صرت
أكره الثامنة و النوم في تلك الساعة
الرسمية التي تؤذن بانتهاء عالمي الطفولي في البيت"(7)، "كانت الساعة
الثامنة حين كان زوجي ينادي بأعلى صوته، لم أكن أحب أن أجيبه في تلك
اللحظة"(8).
إنها الرغبة في معانقة الفوضى الخلاقة و
الاحتماء بالعرائس و الدمى و الورود البيضاء و الملائكة الصغيرة و الحنين إلى ما
بين السماء و الأرض نكاية في المنع والبرود كما هو الحال في نصوص" الأرجوحة
" و "سأسميك نادين" " في ذلك اليوم كنت أسترق الخطو في جنة
صغيرة مليئة بالورود الصغيرة البيض ، تحيط بها ملائكة صغيرة تركض بخفة، كنت أرى
الدمى الصغيرة الملونة و هي هادئة تماما"(9).
يتأمل المتن القصصي في
المجموعة "عناق" العلاقات الإنسانية بشكل عام مع التركيز على تلك التي
تربط الرجل بالمرأة حيث يتحول بيت الزوجية إلى سجن بارد صقيعه الرتابة و الملل و
النفور و البعد ، و يصبح الدفء الذي تنشده العواطف المأمولة بعيد المنال كما هو
الحال في قصة "الشبيهة" حيث تتوق الذات الساردة إلى تجديد دماء الحب عبر
الحلم "أخذت زوجتي موعدا و قالت لي لماذا لا نلتقي في المقهى و أذهب للقائك
كي نستعيد الزمان الأول "(10) لكنها تجد نفسها من حيث لا تدري بواقع مر تكشفه
المفارقة الكبيرة بين الواقع والحلم "وأبدأت حتى أعود للبيت بمفرده وهناك
رأيت امرأة أخرى كان شعلاها معقوفا بشكل رهيب وكانت تصرخ مع الأطفال وكان ظهرها قد
انحنى قليلا(11).
يقارب المتن القصصي مجموعة من الظواهر الاجتماعية و التي تنكشف من
خلال تمثلاتها لاتساع الهوة بين الكائن و الممكن و يتحول الحلم الجماعي إلى سديم
ينقصه الكثير من الدفء و التآزر ، حيث يتحول الحلم بالهجرة إلى هوس دفين لدى فئات
اجتماعية تروم من خلاله الذوات تحقيق الفرح و لو كان قليلا كما هو الحال في قصة
"شيء من الفرح القليل " و يثير السرد أيضا بلاغة المفارقة بين أحاسيس
المدن الصغرى و الكبرى ، فضلا عن مساءلة قضايا أخرى عبر الكشف و التأمل الذي يتوسل
به السرد كالشذوذ الجنسي كما هو الحال في نص "عناق" ، و التحولات الكبرى التي طرأت على بعض العادات
و الطقوس كما هو الحال في نص "وشم" ، و بعض القضايا الوجودية التي تشغل
بال الإنسان كالحياة و الموت كما هو الحال في نص "حجرة عبد اللطيف"كانت
الحياة تجاور الموت و كأنهما يتعانقان عناقا أبديا "(12) فضلا عن رؤى و
تأملات أخرى بخصوص مفهوم الجمال و القبح و غيرها مما يعتمل في خواطر الذات الساردة
من تداعيات و رؤى للعالم "لم أكن أدري كيف انقلبت الصور لتصبح الكائنات
الذميمة كائنات معشوقة و لتصبح الكائنات الجميلة كائنات قبيحة ..هل يوجد القبح
بداخلنا أكثر من الجمال (13).
3-المرجعية النصية و تقاطعها مع دال العناق
تعلن القاصة لطيفة لبصير من
خلال هذه المجموعة عن احتمالات واسعة للحوار و التجاور الأجناسي بشكل يتحول فيه النص
القصصي إلى محطة تتماهى فيها كل أشكال الخطاب بما يخدم المرجعيات الرمزية لدال
العناق ، و ينفتح الحكي على فضاءات نصية
متشابكة تسهم في نسج لحمة النصوص ، و يتسع المجال لحالات التناغم الجمالي و
التداخل النصي بين النصوص المدروسة و النصوص الغائبة/الحاضرة ، الناهلة من
المرجعيات الأدبية و الشعبية و الفنية ، حيث تستحضر الذات الساردة القصيدة بكل
إيحاءاتها الدلالية ، و باعتبارها مجاورا أجناسيا يرافق سيرورة الحكي ، و تحرص على
انتقاء جمالي بديع يخدم البنية الدالية و الدلالية للنص ، لذلك تباغتنا أثناء
القراءة نصوص أبي القاسم الشابي و ابن الفارض و رامبو و جاك بريفير و ماريو
بينيديتي "العناق طريقة أخرى نتقاسم بها الأفراح و الأتراح التي قد تحل بنا
"(14)، كما يحضر أبطال روايات "الرقة التي تغتال " لأرنولد ، و
"بيل آمي" لموباسان و غيرها ، و
يتماهى السرد بفنون الموسيقى و الرقص (مايكل جاكسون ، بوب ديلان ، رقصة المون ووك
، رقصة مشية القمر ) و يحضر المحكي الشعبي بكل دلالاته اللامتناهية على الأمكنة و
الأزمنة ( جرسيف، العيشة بسيف و السروال قصيف )( حديدان الحرامي)، فضلا عن
الاحتفاء بالطقس الاجتماعي باعتباره معادلا موضوعيا للحميمية و التآزر و انتصارا
للجماعية ضد الفردية و الانزواء و البرود ، حيث تحن الذات الساردة لجلسات الشاي و
ما يرافقها من حميمية اللقاء " أتدري يا عبد اللطيف أن للشاي أنسا غريبا ،
فحينما أضع هذا الإبريق أمامي فانا أضع كؤوسا كثيرة حتى لو كنت وحيدة ، و أفترض
دوما أن أناسا آخرين حتى لو غابوا ، سيأتون ليجتمعوا حول الصينية الدائرية لأنها تعشق الدائرة ، و يتخلق السمر و
الكلام"(15)
4- زمن السرد و استبطانه لرمزية العناق
يتسم زمن السرد في المجموعة
القصصية بالتداخل و بخاصيته الاستبطانية
التي تنفذ من خلالها الذات الساردة إلى أغوار الشخصيات و عمق الأحداث ، و تستقرئ
ما يعتمل في دواخلها ، و تكشف عن تصوراتها و رؤاها للعالم، و عن حالات رفضها
لأشكال المنع و الحرمان و البرود ، و يتحول السرد إلى لحظات تركيز عالية للزمن
النفسي الذي يكشف التحولات الداخلية ، و أشكال القلق و التوتر و المفارقات ، و
حالات العود و الحنين إلى دفء الطفولة ، إنه رهان تكسير خطية الزمن الذي يضمن
للذات الساردة حالات الرحيل التخييلي في عوالم وأزمنة موزعة بين الماضي و الحاضر و
المستقبل ، بين الطفولة و النضج بشكل يتحول فيه الزمن إلى دال رمزي يحيل على رفض
أشكال المنع و النظام القسري"صرت أكره الثامنة و النوم في تلك الساعة الرسمية
التي تؤذن بانتهاء عالمي الطفولي في البيت"(16)، "كانت الساعة الثامنة حين كان زوجي ينادي بأعلى
صوته"(17).
4- ضمير السرد
يتوزع ضمير السرد في المجموعة
القصصية "عناق" بين المتكلم و الغائب مع هيمنة واضحة للمتكلم ، غير أن
القراءة العميقة للمتن تحيلنا على توظيف خاص لهذا الضمير حيث يتحول إلى لحظة سردية
يتماهى فيها الأنا و الآخر ، و يتنصل فيها السرد
من طابعه الفرداني عبر استدعاء ذوات متعددة ،متحولة بتحول مساراته، و هذا
يدعونا إلى ضرورة الفصل بين إحالة المتكلم على الذات الكاتبة و بين دلالاته
التخييلية المأمولة ، فكل الشخوص المتفرقة في المتن تختار ضمير المتكلم كشكل من
أشكال التأمل و الكشف و التعبير عن رؤاها للعالم و الكون و الحياة ، و عن علاقاتها
المتشابكة مع الآخر،و بذلك تتجاوز لطيفة لبصير عبر هذا الاختيار رصد ملابسات
الواقع إلى استبطانه و تأمله و الانخراط في تجربة بوح و كشف داخليين.
5- لغـــــة السر
تتكئ المجموعة القصصية "عناق" على
اختيار لغوي يراهن على الانتقاء الدقيق للمفردات و على الوضوح الكفيل بنقل تفاصيل
الأحداث و احتواء بنائها المكثف، العابر حدود الظواهر ، الموغل في أعماقها ، فيتسع
المجال للذات الساردة للوصف و التأمل و الحوار و التحليل ، كما استفاد البناء
اللغوي أيضا من جمالية المفارقة التي ينم عنها البناء المختزل للجمل و طبيعتها
التأملية و القلقة بشكل أسعف نصوص المتن في مقاربة سقف التلقي بما يليق به من
مشاركة النصوص عوالمها التأملية .
استطاعت لطيفة لبصير من خلال هذا الرحيل
الحكائي أن تحقق إضافة متميزة للمشهد القصصي المغربي ، و أن تنخرط في مشروع
التحديث من حيث الموضوعات و الأشكال ، مراهنة على التقاط التفاصيل، و على الغوص في
أعماق اليومي ، و على إعادة الاعتبار للذات في علاقاتها بالآخر، و مساءلة قضايا
المجتمع و المراة بنفَس نقدي ضمني يراهن
على جمالية الكشف و على ذكاء التناول ، و يفيد من إمكانيات المساءلة و التأمل و
الحلم، مع تحكم جيد في الامتداد الزمني و المكاني و اللغوي للشخصيات ، و هذا ما
يضمن سر تألق "عناقها".
الهوامـــش
(1 ) – لبصير لطيفة ، عناق ،المركز الثقافي العربي
،ط : 1،الدار البيضاء ، المغرب ، ص :56.
(2) – نفسه، ص 12.
(3) نفسه، ص 26.
(4) نفسه، ص 118.
(5) نفسه، ص 28.
(6) نفسه، ص 25.
(7) نفسه، ص 8.
(8) نفسه، ص 9.
(9) نفسه، ص 58
(10) نفسه، ص 130.
(11) نفسه ص 131.
(12) نفسه 118.
(13) نفسه، ص 101.
(14) نفسه، ص 30.
(15) نفسه، ص 119.
(16) نفسه، ص 8.
(17) نفسه، ص 9.
الإسم الكامل : صباح الدبي
الصفة : شاعرة
مغربية
إرسال تعليق