يجمع هذا الكتاب بين ميزة مؤلفه الذي ينتمي إلى عقيدة الإسلام، وميزة أن المؤلف لا يصدر عن منطق دعَوَي، ولا هدف دعائي، بقدر ما يطل على موضوع الكتاب من منظور التحليل الأكاديمي، الذي يتعامل مع منطقة الشرق الأوسط أولاً، بوصفها إقليماً محورياً بالنسبة لمواصلات العالم واقتصاداته وتجارته ومصالحه وعلاقات دُوله، وثانياً، لأنها المنطقة التي شهدت وتشهد على مدار السنوات الأخيرة، تحولات ومتغيرات جمعت بين السلب والإيجاب، ولكنها حملت في جملتها عنواناً شهيراً، هو: »الربيع العربي«، وثالثاً، أن الشرق الأوسط، في تصوّر مؤلف الكتاب، أصبح منطقة تفاعلات ملتهبة ومنذرة بالخطر في أحيان كثيرة بين أقطاب وعوامل شتى، في مقدمها، ما أصبح يعرف باسم الإسلام السياسي، فضلاً عن العناصر الأخرى المتمثلة بداهة في تحولات وتطلعات التحول الديمقراطي، وخاصة في أقطار مثل تونس ومصر. وبالإضافة إلى ذلك، يعرض الكتاب في فصل كامل لتطورات الصراع الفلسطيني، الإسرائيلي. وفي فصل كامل آخر لقضية إيران والطاقة النووية. وفيما يرى المؤلف أن حل الدولتين لم يعد عملياً من وجهة نظره، فهو يرى أن معضلة إيران لن تحل إلا بإعلان الشرق الأوسط منطقة خالية من الأسلحة النووية.
صحيح أن الشرق الأوسط مصطلح شاع استخدامه، وخاصة خلال وقائع الحرب العالمية الثانية، وصحيح أن حارت البرية، كما يقولون، في التحديد الدقيق لمعالم منطقة الشرق الأوسط، بين من يقصرونها على الأقطار العربية، ومن يوسعون التعريف إلى أن يشمل الشرق الأوسط أقطاراً وشعوباً وثقافات غير عربية، مثل تركيا وإيران، إلا أن ثمة إجماعاً بين الدارسين والإعلاميين والمحللين السياسيين، على أن الشرق الأوسط، هو في نهاية أو بداية المطاف، منطقة تكاد تشكل همزة الوصل، مفترق أو ملتقي الطرق بين قارات أوروبا وآسيا وأفريقيا، أو بين الشرق والغرب، فضلاً عن إجماع الدارسين والمؤرخين، على أنها مهد حضارات العالم في زمن قديم، بقدر ما أنها كانت مهبط الرسالات السماوية الثلاث، إلى جانب كونها تشكل المعبر المائي والبري أيضاً لطرق التجارة، التي يمكن أن تنشأ في بر الصين عند أقصى شرق المعمورة، إلى أن تصل إلى الأصقاع الأوروبية ما بين حوض البحر المتوسط ، بل إلى أقاصي الشمال النورماندي في أرجاء شبه قارة إسكندنافيا.
إلى جانب هذا الإطار التاريخي الجغرافي، بدأ الاهتمام يتزايد منذ السنوات القليلة المنقضية بمنطقة الشرق الأوسط، على أساس أنها منطقة تموج بعوامل التوتر، وتهددها مشكلات وظواهر زعزعة الاستقرار. كيف لا، وقد تحولت مسارح الأحداث في منطقة الشرق الأوسط إلى حيث باتت تشهد ظواهر مستجدة أو متجددة أو كانت كامنة تحت السطح، حيث تراوحت بين ظاهرة متأصلة، مثل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إلى قضية الطموحات النووية في إيران، إلى ظاهرة ما أصبح يعرف في المجامع السياسية والأكاديمية تحت مسمى »الإسلام السياسي«، ناهيك بالطبع عما لا يزال مطروحاً ومشهوداً تحت مسمى الربيع العربي، وقد تجسدت تياراته في منطقة الشرق الأوسط على شكل انتفاضات وتحولات أو ثورات.
لا عجب والحالة هذه، أن تستأثر منطقة الشرق الأوسط باهتمام الدارسين من كل أنحاء عالمنا، ومنهم أكاديمي ومفكر يحمل اسماً إسلامياً، هو البروفيسور محمد أيوب أستاذ العلاقات الدولية بجامعة ميشيغان بالولايات المتحدة الأميركية.
يطرح الدكتور أيوب مقولاته وآراءه عبر 6 فصول، تتسم بإيجاز العرض وتكثيف التحليل.
ويهتم في بداياتها بتحليل ما يصفه الكتاب بأنه التحدي الإسلامي، فيذهب إلى أن هذه الظاهرة التي ترفع لافتة الإسلام، ما هي سوى مظلة عريضة تُخفي أكثر مما تُظهر، وعلى أساس أن هذا الاتساع التاريخي يبدأ من تشكيل جماعة الإخوان المسلمين في مصر (عام 1928)، وصولاً إلى حزب العدالة والتنمية في تركيا، وهنا، يرى مؤلف الكتاب أن في هذا الاتساع الزمني ما يجعله يتصور أن هذا الطرح الإسلامي ليس متسقاً، ولا هو يشكل مساراً موحداً، ومن ثم، فقد كان جديراً بأن يشكل خطراً محدداً لولا أن تدخلت عناصر عديدة من داخل المنطقة وخارجها، كي تستغل هذا النزوع الذي زاد من وطأته، وربما من خطورته عامل آخر، محلي أو إقليمي هذه المرة، وجسدته النزاعات التي اشتجرت بين الدول والقوى من داخل إقليم الشرق الأوسط ذاته، ما بين قوى تقدمية وقوى تقليدية، وما بين دعاة الحداثة أو المعاصرة ضد المتمسكين بالتراث، بكل ما يحويه من غث وسمين في معظم الأحيان.
الساحة ملعب للجميع
المشكلة، يضيف مؤلف الكتاب، أن كل هذه القوى الخارجية والداخلية، لم تجد ساحة تلعب على أديمها وتعبّر فيها عن مشكلاتها، بل وتعقيداتها، فضلاً عن أجنداتها وغاياتها، سوى منطقة الشرق الأوسط، التي ما برحت توتراتها تزداد بأساً وبؤساً، إلى درجة تكاد تنذر يوماً بالانفجار على نحو ما يوحي به عنوان هذا الكتاب.
على أن هذه التوترات لم تقتصر على الجوانب السياسية أو العلاقات الإقليمية أو الدولية، لقد جاءت تدخلات تلك الأطراف كي تستغل، ومن ثم تشعل عوامل الاختلاف والتباين والفرقة بين شعوب المنطقة، وفي داخل نسيج وكيانات تلك الشعوب، بعد أن عاش أهلها على مدى أحقاب طويلة في حال من التفاهم أو المسالمة أو الوفاق أو المصالحة على اختلاف الأديان، مسلم، مسيحي، أو اختلاف العرقيات، عربي، نوبي، أمازيغي... إلخ، فضلاً عن اختلاف التوجهات السياسية، يمين، يسار، ثيولوجي، علماني، بل واختلاف المشارب الفكرية والثقافية، ما بين أتْباع الثقافة الكلاسيكية، وأتْباع الثقافة الإنجليزية السكسونية واتباع الثقافة الفرنسية اللاتينية.. إلخ، عاشوا جميعاً على الأقل خلال خمسة قرون من الحكم العثماني في حال من المسالمة، وناضلوا جميعاً، أو ناضلت كثرتهم، ضد السيطرة الأجنبية، سواء كانت حاضرة هذه السيطرة تركية في إسطنبول، أو بريطانية في لندن، أو فرنسية في باريس.
لا تنسى فصول كتابنا، الإشارة إلى أن منطقة الشرق الأوسط، وبرغم اتضاح معالمها الجغرافية، والتسليم بخصائصها التي اتسمت بها عبر التاريخ، إلا أن معالمها السياسية تمّ رسمها فقط في مستهل القرن العشرين، وبالتحديد في الفترة 1915، 1916، التي شهدت، كما تقول حوليات التاريخ العربي المعاصر، توقيع معاهدة سايكس، بيكو، وكانت مشبوهة في جوهرها، حيث شكلت في الأساس اتفاقاً سرياً لم يعرف به أهل المنطقة أنفسهم، فيما كان الاتفاق يقضي بتكريس تقسيم الدولة العثمانية (رجل أوروبا المريض، كما كانوا يعرفونه خلال القرن 19)، لا من أجل مصلحة العرب سكان المنطقة، ولا في سبيل تحريرهم، رغم تضحياتهم خلال الحرب العالمية الأولى، من نير الأتراك، ولكن لتخليص المنطقة إلى حيث تستأثر بأمورها استعماراً وخديعة واستغلالاً كل من إنجلترا، وكان يمثلها سير مارك سايكس، وفرنسا، وكان يمثلها جورج بيكو.
والأنكى من ذلك، أن هذا الاتفاق التقسيمي لمنطقة الشرق الأوسط سراً، ظل إلى أن كشفت عنه أوساط الثورة البلشفية في روسيا في أكتوبر عام 1917. وجاء هذا الكشف المفاجئ أقرب إلى قنبلة سياسية في ذلك الحين. وها هو مؤلف كتابنا يشير إلى أن الشرق الأوسط لم يشهد مثل هذه الصواعق السياسية منذ عام 1917، إلى أن قيضت له صروف الأحداث وتوتراتها، أن يشهد ظهور عصابات تحمل اسم »داعش«، بعد انقضاء نحو قرن من الزمن.
الإصابة بعدم اليقين
يوسع المؤلف إطار الطرح والتحليل، حين ينبه العالم إلى ما يحدق بالشرق الأوسط من خطر، برغم كونه بحكم الموقع والتاريخ والتعريف، منطقة محورية من حيث الأهمية، وحاكمة من الناحية الاستراتيجية بالنسبة لأمن ومصالح وسلامة النظام العالمي القائم. يعزو هذا الخطر إلى ما صاحب التغيرات الصاعقة التي واكبت ظاهرة الربيع العربي من نتائج وأوضاع أدت، وما برحت تؤدي، إلى زعزعة الاستقرار وسيادة حالة تعرف في مصطلحات السياسة الدولية، تحت مسمى »عدم اليقين«، وهو يختار لوصف هذه الحالة اثنين من العناوين المحورية بدورهما:
العنوان الأول هو: »التحدي الإسلامي«، والعنوان الثاني هو: »قنبلة إيران النووية«.
تحت العنوان الأول، يتوقف الدكتور أيوب ملياً عند نجاح »الإسلامويين« في مصر وتونس في الانتخابات إلى حد الاقتراب من السلطة، بل والإمساك بمقاليدها، ولكن على غرار كل الدراسات التي تصدر عن أوضاع قابلة للتغير، فقد كان بديهياً أن يفوت على كتابنا فرصة المراجعة في التحليل في ضوء خسارة »الإسلامويين« في تونس في انتخاباتها الأخيرة، وفي ضوء انحسار الشعبية عن إخوان مصر في المراحل الزمنية الأخيرة أيضاً.
في كل الأحوال يحسن الكتاب صنعاً حين يوجه تحذيراته، منبهاً إلى ضرورة استيعاب فئات من شباب هذه الجماعات في مصر أو في تونس أو في غيرهما، خشية أن تؤدي بهم حالات الشعور بالغضب أو باليأس أو الإحباط، دع عنك مشاعر الضياع، إلى حد الوقوع في براثن التطرف، إلى حيث تنظيم القاعدة ونظرائها، على حد ما تقول صفحات هذا الكتاب.
وعندما يتطرق الفصل الثاني من الكتاب إلى قضية إيران النووية، يناقش المؤلف آراء كثيرة ومتباينة، ومنها مثلاً، الرأي الذي ذهب إلى حد الحديث عن ضربة إسرائيلية أو أميركية إلى المواقع الإيرانية، لكن العقلية الأكاديمية التي يصدر عنها مؤلفنا، تدفع به موضوعياً إلى حيث التأكيد على ضرورة بذل الجهود الحثيثة التي يمكن أن تفضي، في رأيه، وفي رأينا المتواضع أيضاً، إلى إعلان الشرق الأوسط منطقة خالية من الأسلحة النووية، خاصة أن الكتاب يحذر، من منطلق موضوعي كذلك، من أن أي ضربة لإيران، أياً كانت المبررات، كفيلة بأن تزيد من اشتعال المنطقة وتأجيج الأوضاع على صعيدها.
في كل الأحوال، يشعر قارئ الكتاب أن تحليلات وطروحات المؤلف تتأرجح بين قدر من التفاؤل، الذي يطمح إلى أن تترجمه التحولات التي جاءت بها ظاهرة أو مقولة الربيع العربي إلى ممارسات حقيقية وأصيلة في مجال الديمقراطية، ثم بين قدر ربما أكبر من التشاؤم، أو فلنقل عدم التفاؤل، خاصة في ضوء عاملين، يتمثل أولهما في إذكاء لهيب الصراعات والمواجهات المسلحة إلى حد دموي، وتحت شعارات دينية، برغم أن الدين بريء منها، كما هو بديهي.
والعامل الثاني، يتمثل في أن المؤلف يرى أن صيغة الدولتين المتجاورتين، المتعايشتين في فلسطين وإسرائيل، لم تعد، في رأيه، حلاً عملياً، وخاصة في ضوء ما ارتآه المؤلف من عوامل مستجدة عند الطرف الصهيوني، وفي مقدمها سطوة غلاة اليمين الصهيوني، وزيادة ما أصبحوا يستأثرون به من نفوذ ما زال مستشرياً، بحكم ما آلت إليه الأحوال على صعيد أهم الأطراف العربية الداخلة في هذا الصراع الإقليمي المزمن، فباتت هذه الأطراف تعيش حالة من تركيز، حتي لا نقول انكفاء، على ظروفها وتقلباتها الداخلية.
سؤالان عن مستقبل المنطقة يؤرقان الباحثين
في الفصل المعنون المنازعات (أو المنافسات) الإقليمية والعالمية، يتوقف مؤلف كتابنا ملياً، ليوضح أن من أهم عوامل التوتر، المنذرة، في رأيه، بانفجار في المنطقة، ما يتمثل في استمرار الصراع الفلسطيني، الإسرائيلي، بكل ما ينجم عنه من انعكاسات صاعقة على مسارات منطقة الشرق الأوسط ومصائرها، وبرغم أن البروفيسور محمد أيوب لم يتوسع في هذا الصدد، كي يشير إلى ما تعرفه دفاتر هذا الصراع على شكل تقرير لجنة بانرمان البريطانية، التي أوصت في مستهل القرن الماضي بزرع جسم (سياسي وديمغرافي) غريب في قلب المنطقة، كي يفصل شرقها (الآسيوي) عن غربها (الأفريقي)، ويحول، بالتالي، دون آمال تكاملها أو توحّدها، إلا أن تحليل هذا الفصل من الكتاب، كفيل بأن يؤكد للقارئ كيف أن إدامة أجل الصراع العربي، الصهيوني ما زال يؤدي دوره المدمر في هذا المجال.
تكاد فصول هذا الكتاب تتأرجح بين سؤالين مطروحين عبر فصوله الستة:
السؤال الأول : هل كان الربيع العربي مجرد سراب لا يلبث أن يؤدي إلى إدراك الحقيقة، ومعها خيبة الأمل ؟
السؤال الثاني : هل الانتفاضات التي شهدها الشرق الأوسط تشكل بشيراً حقيقياً بمستقبل أفضل للمنطقة وشعوبها؟
يشعر النقاد بأن المؤلف نفسه ظل يتأرجح بين السؤالين: ما بين خشية على المستقبل، وأمل في نفس المستقبل، رغم أن فصول الكتاب تكاد تُفصح عن موقف البروفيسور محمد أيوب، متمثلاً في نظرته شبه المتفائلة، بأن العالم العربي كفيل بأن يشهد مستقبلاً أفضل، ولكن في الأجل الطويل.
وهو يشير إلى أن الإخوان المسلمين عصفت بهم ،منذ صيف عام 2013، تطورات الأحداث في مصر، وهو ما قد يدعم مسيرة الديمقراطية التشاركية، كما يسميها، في مصر، التي نرى من جانبنا كقارئين ومحللين أن الإخوان قد ذهبت بهم أخطاؤهم وسلوكياتهم، فضلاً عما تكشفه الوقائع اليومية من حوادث التخريب والتآمر والتدمير التي يروح ضحيتها غمار المصريين.
هكذا تكلم باتريك سيل
أبدى باتريك سيل، الكاتب الاختصاصي في شؤون الشرق الأوسط، ومؤلف كتاب »النضال من أجل الاستقلال العربي«، اهتماماً كبيراً بكتاب دكتور محمد أيوب، وقال عنه: إن هذا الكتاب المحدود في عدد صفحاته، يعوض هذه المحدودية بتألقه الكيفي، فهو تحليل متميز للحياة السياسية في الشرق الأوسط، ويقدم للقارئ مادة لا غنى عنها، تلقي الضوء على العديد من قضايا المنطقة، وتكشف أسرارها، في إطار تحليل معمق يتسم بالدقة والشمول في آن.
المؤلف في سطور
البروفيسور محمد أيوب أكاديمي بارز ومفكر مسلم، ينتمي إلى أسرة هندية، ويبلغ من العمر 73 عاماً. حصل على الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة هاواي. وقد تخصص بعد ذلك في الشؤون والعلاقات الدولية التي يقوم بتدريسها في جامعة ميشيغان بالولايات المتحدة.
وقد ذاع صيته في مجال دراسة العلاقات الدولية، باتباعه منطق الواقعية الصارم في تحليل الظواهر السياسية وسلوكيات الدول، وهو ما تجلى في عدد من الدراسات المهمة ، ومنها كتابه بعنوان "أزمة الأمن في العالم الثالث". وفي عام 2008، اهتمت الأوساط العلمية بالولايات المتحدة والعالم، بصدور كتابه »الأوجه العديدة للإسلام السياسي«.
عدد الصفحات: 208 صفحات
تأليف: محمد أيوب
عرض ومناقشة: محمد الخولي
الناشر: مؤسسة بوليتي، لندن، 2015
إرسال تعليق