فتاة الشات الغامضة بقلم: السيد نجم
حاصرتني أشباح أناس، أقسم أنهم أحياء!
يمكنني دومًا أن أقدمهم، بأنهم أصدقاء "الشات"
أو غرفة الدردشة.. إلا "جوليا"، لا يمكن أن أبوح بأكثر من اسمها، دون رسمها،
أو بما يدور بيننا من حوار!
ذات ليلة بينما كنت ممتدًا على ظهري، ما
بين النوم واليقظة، أحست زوجتي بثالث يشاركنا الغرفة. يبدو أنها لم تكن المرة الأولى،
وإلا لماذا نفرت التفاتة فزعة نحوى، وإلى حيز ضيق جدًا بيننا على السرير؟
قالت بثقة جعلتني أنتبه:
"بلغت منك الجرأة أن تسمح لها بالنوم
على سريري، أن ترقد بيننا؟!"
فكرت مليًا في حيلة تقنعها بأننا وحدنا
فى الغرفة، نهضت.. أحكمت ستار النافذة، وتعللت بهالات ضؤ تغزو غرفتنا، ترشقها لثوان
وتختفي بسبب كشافات السيارات المسرعة فى الخارج.
وضعت قدميها تحت فخذيها وتربعت فوق السرير
على هيئة بوذا أو الكاتب المصري القديم، وبدأت رحلة طويلة من التأنيب على أفاعيلي كلها..
أخيرًا أوجزتها: أن الملعون الكمبيوتر سرقني
من بيتي وأسرتي ومنها، وما فاض وغطى كما فيضان السيول من فوق قمم الجبال، أن أحمل زوار
"الشات" معي إلى غرفة النوم، و"جوليا" بالتحديد، تلك التي جرأت
إلى إحتلال السرير.. بيني وبينها!
وصلتني الرسالة كلها، فهمت، ماذا على أن
افعل؟
كيف أقنعها أن "جوليا" هناك..
فى بلاد الأندلس يا حبيبتي؟
تابعت بتحد:
رأيتها هنا فى مطبخي، تعدو خلف القط الرمادي،
ثم تضحك.. وكأنها لمحتني وتتعمد إثارة غضبى، أكيد تعلم أنني لا أحب الغرباء يدللون
قطتي.. وكان القط يهز ذيله.. هل تسمعني، رأيته يهز ذيله؟!
فإبتسمت لعلى أهون من غضبتها: وماذا يعنى
أن يهز قطك ذيله؟!
يعنى أنه يبادلها الدلال، يتعمدان إغاظتى!
هل تريد أن تعرف المزيد؟
إذن أذكرك بما حدث يوم أن جاءتك رسالة فى
البريد الالكتروني، مرفق بها صورة، إجتهد فيها المصور الفنان فى إبراز توزيع الضؤ بين
أرجاء المشهد، وكانت لقطة فى بستان جميل، بينما الصغار يقطفون زهرة الياسمين فى الفجرية!
فقلت لك:
"ما أسعده صاحب هذا البستان، هل إختبأ
بين غياهب تلك الزهور الجميلة؟"..
كان ردك:
"ولماذا لا تكون صاحبة البستان، هذه
الرقة وهذا الجمال لا يتأتى إلا من أفكار وأعمال إمرأة؟!.. كنت أعلم أنك تعنى الحديث
عن "جوليا" صديقتك، التي تخفى أخبارها عنى".
وعندما همست فى أذنها القريبة من فمي بأنها
تحلم، إرتجفت قليلا ودفعتني بدلال، وقالت:
"أنت تعلم أنني أغار من دغدغة أذني،
لن أسمح لك أن تخدعني!"
ثم همت ورجعت تشير إلى ما كان بيننا من
مساحة هينة، وفجأة إنحنت حتى تكاد رأسها تلامس ملاءة السرير، تسعى لأن تمسك بالأنثى
البيضاء ذات العيون الخضراء والشعر الأسود.. هكذا وصفتها لي، ثم طلبت منى تفسيرًا يقنعها..
كيف تراها بيضاء وذات شعر أسود؟!
لم أستطع أن أنكر، "جوليا" حقا
لها شعر أسود! ولأنها لا تمسك إلا الهواء، ظلت تحك كفها بأصابعها المنفرجة، تمسح بها
المكان كله، حتى لامست ردفاي وفخذي وما بينها، وهى تسألني بصوت جاد محايد:
"هل يمكن أن تخبأها هاهنا؟"
فكانت فرصتي، أن أحيل الحديث للتعبير عن
محبتي لها.. من المستحيل قطعًا يحدث ما تسأليني عنه، أو ما يدور بخلدك، أنت.. أنت ولا
أحد غيرك لي فى هذه الدنيا.
حاولت أن أهدئ من روعها، وأخبرتها أن الوساوس
غلبتها.
إنتبهت زوجتي نحوى، ومالت أكثر:
"أليست تجيد العربية، سمعتها تتحدث
إليك.. تسألك فتجيب؟!"
ثانية لم أستطع أن أنكر، فهي تدرس اللغة
العربية، وتجد فى حواراتنا فرصة لها لأن تمارس اللغة، لا أن تحفظ مفرداتها فقط؟!
لكن قبل وبعد هذا كله، كيف تخال زوجتي أن
"جوليا" بيننا ها هنا؟ أنا لا أؤمن بوجود الأشباح، أنا واثق.. كثقتي فى صدق
ما إنتهت إليه زوجتي؟!
فضلت أن أشعل المصباح، وعدت إلى شعرها المنكوش
أساويه وأعبث برفق فى فروه رأسها. وهو ما شجعها لن تحكى أكثر وتبوح، ولكن بصوت عاتب
غاضب غير عدواني، ولا هو صارخ كما كانت منذ قليل.
قالت:
"بحسبة بسيطة تأكد لي أنك تجلس إليها،
وتتحاوران أكثر كثيرًا من أوقات جلوسك معي والتحدث إلى.. ماذا فيها ليس هاهنا؟"..
بعشوائية وبرفق قبصت ثدييها، كانت أشبه
بصناع الماس يلتقطونه ويحكمون وضعه فى المشغولات الذهبية. ولأنها المرة الأولى التي
أراها على هذه الدرجة من الغجرية والأنوثة.. دهشت، ولم أجد ما أعقب به، ولو من باب
المجاملة.
تزوجنا منذ أكثر من عشرين سنة، لم أراها
ضعيفة، ضعفًا أنثويًا، أو هكذا خيل لي. لم أستطع أن أخفي ما شعرت به، ولم أشأ أن أهمس
به كعادتي معها، نظرت إلى بؤبؤ عينيها، إقتربت من مقدمة أنفها: "أنت فينوس الشرق،
أما "جوليا" التي أعرفها وليست التي فى رأسك، تسألني فأجيب، أقرأ لها أشعاري
فتنصت.."
لم تدعني أتابع، بغضب عادت إلى صياحها:
"لا أحب الشعر.. هل كل ذنبي أنني لا
أكتب الشعر مثلك؟"
"بل أحببتك بغير الشعر.. صدقيني، لو
حكم الشعراء العالم لفسدوا فيه وأفرطوا.. أفلاطون طردهم من جنته.. لكنني أحب نزوتي!"
لم تصلني قناعتها، ولا شعرت بهوان ما فى
رأسها، حاولت أن أبلغها قراري وقناعتي.. لم يعد الكمبيوتر عندي نزهة أو نزوة أو للترفيه،
صدقيني.. ماذا ترين أن أفعل؟..
لم تمهل نفسها لحظة لإتخاذ قرارها:
"أن توقع علي "جوليا" هذه
العقاب المناسب"
خلت أنها تمزح، فكان تعليقي وردى.. أن نهضت،
ووقفت فوق السرير ثم عبرتها، وفى خطوة واحدة كانت قدماي على الأرض، أمام دلفتى الدولاب،
وفورًا رفعت الحقيبة الجلدية السوداء البالية، وسحبت منها مبلغا من المال.
الآن،
وبهذا المبلغ يمكنني أن أمضى أسبوعًا مع جوليا هناك؟!
يبدو أنها دهشت لفكرتي وتهديدي، تعجبت إلى
حد الصمت، وظلت تتابعني وأنا أرقص، كانت حركاتي ساكنة مع صفير هين بالإيقاع. لا أعرف،
هل كان رقصي توترًا أم سعادة؟ وبدت نظراتي بعيدة جدًا عنها، نحو باب الغرفة المحكم..
حتى إنفلت لساني:
"فى الشعر حياتي، أنا وهو فى جعبة
الأيام.. واحد!"
سحبت طرف قميص النوم من تحتها، إستدارت
لي، هبطت إلى الأرض، وقفت، إقتربت منى بحذر، كأنها تخشى حيوان مفترس.. لم تلتقط ناظري،
بينما سحنتي تشيح إلى هناك، لم تنطق، ولا أدري ما كان يدور فى رأسها من أفكار، ولماذا
بكت؟
بكت بحرقة لم أراها عليها طوال فترة زواجنا:
"هوني عن نفسك، أحبك.. هل تبكي لأنني
أسأت إليك إلى هذه الدرجة؟"
"لأن جوليا هزمتني!"
لم أنبس، جلست على طرف السرير.
فتابعت وحدها:
"أرفض أن لا يتعلق بحياتي، ويلاحقني
فى كل الأوقات، وفى كل مكان من بيتي، غير سؤال وحيد، وكرامتي تمنعني أن أبوح به: ماذا
أستطيع أن أفعله لك ومعك؟"
لم أجد فى رأسي ما أجيب به، إنتبهت لها،
رأيتها ترمش عيونها بعصبية واضحة، عادة جديدة لم تكن عليها من قبل، لعلها كانت عليها
من قبل ولم أنتبه إليها.
إنتابتني مشاعر الشفقة.. لا أدرى الشفقة
عليها أم على أنا؟
هناك الآلاف من الناس يتعارفون كل يوم عن
طريق الشات، هل كل ما يحدث ويدور من أحاديث صادقة..؟
لم تمهلني، تابعت بحرص شديد:
"أنا لست خبيرة فى هذه المسائل، ولا
أستطيع أن أدلى برأي فيها، لكن ما تقوله أمر رائع"
.. "ولماذا هو رائع؟"
"لأنك فسرت لي ما تفعله دون أن تدرى.."
.. "وماذا كنت أفعل؟"
"كنت -وأنت إلى جواري- تردد اسمها
وتعيد كل ما دار بينكما على الشات، وأحيانا كانت تسقط بعض الكلمات، لا تبين لي، لكن
لم يسقط معنى ما كان يدور بينكما أبدًا!"
إرسال تعليق