على الرغم من مرور ما يقارب السنة على لحظة ميلاد هذا الإصدار الشعري
الموسوعي، تظل الرغبة في خوض مقاربات جديدة له، قائمة وأكثر إلحاحا من ذي قبل،نظرا
لقيمته الفكرية والفنية على حد سواء، وإغراءات حقوله الدلالية وأسلوبيته المتشبعة
بالثقافة الشعبية والرموز الدينية
والثراتية ، في احتفالية تلقائية
بالزمكان الغابر السحيق، تخلو من فعل الصنعة أو التكلف في استحضار الملاحم
كنواة لحقب تاريخية تفرض حضورها في الذاكرة العربية والإنسانية وتستمد متانة
ارتباطها بالأنتماء والهوية،من قابلية إسقاطاتها على الراهن العربي في وضعيته
الحرجة والمزرية اليوم.
هي مسودة إذن مترعة بالنصوص المطولة، أقرب
إلى المجلد الشعري، منها إلى الأضمومة الخاطفة ،كغذاء أو وجبة سريعة لروح وعقل
متلقي ما بعد القرن العشرين والذي يفضل الإيجاز
والإقتضاب ربما لكونه صاحب حمولة كبيرة من أسباب القلق والتوتر وما شاكل ذلك من
الضغوط النفسية كضريبة مباشرة لإفرازات
روح عصر تهيمن عليه الآلة والتقنية الآخذة في رسم مسارات التطور.
تحتاج " طواسين" الشاعر المتألق
عبد الجبار الجبوري، إلى عين ثاقبة وبصيرة متقدة ، تمنحها أحقيتها في الدراسة
والتقييم . فكون الرجل أستاذا لمادة التاريخ ، حفزه على مغامرات كلامية مشوقة
باعثة على الإنبهار والدهشة، تعيد صياغة تلكم الحقب الماضوية لتعرضها وفق تصورات
تقدمية أكثر جرأة ودراية بعمق المأساة والدرامية والشرخ الملم بوطن وازن إقليميا
وعربيا وعالميا، العراق كأنموذج للطائفية والفوضى والعبث السياسي ودموية المشهد.
ففي زمن العهر كما تضمنت الطواسين نقلا عن
شاعر الإنسانية نزار ، المبدع يتلمس أعذاره دون أن يغض الطرف،عن تبعات محاججة أو
مقارعة أهل الذائقة له، أو حتى مخالفيه في الرأي والفكرة .
وهذه النفسية المثقلة بهموم وأوجاع الواقع
تمنح مبررات على شاكلة ما، وترخّص للذات إدمان الشطحات الخيالية كمتنفس ومحطات
للأريحية بمنأى ولو قليلا عن مشاهد الدم والخراب والبربرية، لكن باعتماد مواقف
تدين وتشجب هذا الواقع بل وتحاول التأثير فيه إيجابيا وتغييره.
ومن ضمن مفارقات هذا المنجز الشعري الموغل في
أدغال التاريخ،نجد الوقوف الصارخ في صف الحجاج بن يوسف الثقفي كأنمودج للجلاد والديكتاتوري
الذي لا يقيم وزنا للعواطف ، شخصية سياسية غليظة في ثوب حديدي مرعب قامع، وصاحب
مقولة" إن للشيطان طيفا وإن للسلطان سيفا" وكأن السياسي يجد ربه أن يغدو
شيطانا، والسلطة لا تتم إلا بالسيف . ولو أن ثمة كتب تنفي عن الحجاج بعض الذي نسب
إليه بهتانا. المهم أن شاعرنا ، وفي ظل ظرفية التشرذم والتفتت والهوان وغياب سلطة
الدولة والمؤسسات،لم يجد بدا من أن يلوذ بأشباه الحجاج، كونهم من يمتلكون قوى ردع
الخونة والمتكالبين على مصالح العراق، شأن العديد من البلدان العربية.
عبر حفريات الديوان التاريخية مثلت بغداد
الهاجس الأكبر إلى جانب توأمتها غزة ،باعتبارهما قطبي الفلك السابحة فيه بقية الأمكنة جنوحا إلى
فلسفة حيادية تستنطق التاريخ بروح فياضة تواكب التطورات التي يمليها العصر.
الدكتور عبد الجبار كشاعر حقيقي، ينتقي
بعناية ألفاظه ويقتنص بحنكة معانيه من العادي والمألوف ومن التفاصيل الصغيرة ،
يبتغي إعادة صياغتها موظفا كل الأدوات المنطلقة من معجم متجدد يغترف من الأصالة
عند الحاجة إلى ذلك، وهو ما يمنح النص التفرد وخصوصية البصمة.
يقول"نجمة تائهة" وكمعادل موضوعي
لها، السائد في الإعتقاد البشري، من قبيل أن النجوم للإهتداء بها، بل هو ما صرحت
به بضع آيات قرآنية. وهذا على سبيل المثال لا الحصر، فالديوان يحوي من هكذا معاني
الشيء الكثير.
حتى أن حس شاعرنا المرهف والدافق بكل ألوان
البوح وينابيعها البرودة، دفع به إلى الجهر بملكية الطواسين " ليست
للحلاج" وكأنه ينفي انتسابها إلى
الحلاج، كما هو متداول وشائع.
وفي ذلك تلميح إلى أن من دلالات العنونة ما
يحيل على الآيات، جمع آية، (طس)(طــ و ـــس ) جمعها يعطي طواسين ، وهي صوفية
باطنية، يتشاطرها مع الحلاج، ونزوع إلى استشراق، نور وأضواء مبددة لعتمة النفوس
المحبطة إزاء إكراهات وضغوطات الراهن المرير.
هي نبوءات اقتضت العودة بالذاكرة الموجوعة
المحاصرة بأمراض العصر، إلى جذور تاريخية مفقودة، أقصد أن كل مانمتلكه اليوم، هو
ذلكم الحنين إلى الزمن المثالي، زمن الملاحم.
صوفية تتدرج في اقتراحات طقوس التوحد مع
الذات الإلاهية لنسف آلهة الخراب المزعومة، آلهة مستنسخة عن أوثان قرشية ومجسدات
من الشوكولاته تلتهم بعد جوع، يا
للسخرية...'
أسلوبية مدهشة ونصوص غنية بالصور الشعرية
الوامضة والتركيز على المزج بين العنصرين الجمالي والمعرفي،ضمن ما يُلبس
الإيديولوجية رداء الجمال،قصد إعادة رسم وتشكيل الواقع عبر ما يحرض على ما يسهم في
فض هذه الحروب الطائفية اللقيطة ويتيح للعراق إمكانية استرداد عافيته وشموخه ورياديته
عربيا ودوليا.
الحلاج،حمو رابي، جلال الدين، ومنظومة
متلألئة من الشموس والرموز، يا خيبة من
يحرم نفسه،كبرا أو خجلا، من ملء جرره الروحية والعقلية،من حكمهم الخالدة في
عنفوان.
ومن أجواء المجموعة أيضا ما يفيد توجيه
خطابات نارية لوحوش زمنهم ومطالبتهم بالكف عن اللهاث خلف مآربهم الضيقة وأهدافهم
الدنيئة المدمرة. توظيف الخراب كشكل من أشكال الإقتصاص من هؤلاء القتلة باسم الدين
الذي هو منهم براء بكل تأكيد.
وكما هو جلي أيضا، الإتكاء على تقنية"
الثقافي يخلّق السياسيّ" والعكس بالعكس تماما، ففي عالمنا العربي، لا عيب على
الإطلاق في السياسة كمرجعية أو مفهوم ، إنما كممارسة عرجاء وسلوكيات متشبعة بصديد
وقيح النفعية والمآرب الحزبية الضيقة إذ تهيمن عليها الأنانية المريضة التي تعصف
بمصائر وتطلعات الشعوب.
"طواسين" منقوشة بدم القلب في
الذاكرة الإنسانية . سكرة الإنتشاء بفصولها النضرة الماطرة المتضوعة بالأوجاع
العامة والحس العروبي والوطني ،أبدية ،تلبس كل نواة من متلقيها، كيف لا؟ وصاحبها
المنقب دون كلل عن مدينة فاضلة في خضم المأساة، يستحق عن جدارة صفة الفروسية في الحرب الكلامية والحب النابع
من العمق الطفولي النقي والبريء، حب الخير والسلام والسيادة الترابية والإستقرار
والحرية والعدالة والمساواة لكل بلدان التشظي والفوضى والدمار.
الريح كمعنى لأزمنة الهلاك . الخمرة للسلطان
، ولنا الغيمة الراحلة نحو المفازات،في هذا إحالة على الأثر المشهور( أمطري حيث
شئت فلسوف يأتيني خراجك)
وكأنه قدر الدراويش مع كامل الأسف . كد
ومثابرة ونبيذ جلود . عقلية القطيع مع كثير من التحفظ حول هذه العبارة . كدح شاق
ومضني يذيله مضي الثمار إلى علية القوم، فهؤلاء يقطفون زهرات جهود غيرهم عن كسل
وخمول.
البحر وعوالمه ،شكل ويشكل أبرز العناصر
والمكونات الطبيعية التي يفضل الشاعر عبد الجبار الإشتغال عليها وتوظيفها كثيمة
لتمرير قناعاته. فلا أروع من الفزع إلى هذا الجبار الغامض والمترع بالأسرار،
ومناجاته ترويحا عن الذات المكروبة والمحاصرة بشتى أمراض العصر.ففي حضرته تتعانق
وقفات تبجيل وإجلال اللامتناهي . إنه الملهم الذي لا يضاهى، دائما وفي سياق مجرى
الطواسين صوب نهايات مفتوحة على أكثر من تأويل،حتى المنفى له دهشته لكنها ليست أي
دهشة،إنها تولد فقط وتبسق وتترعرع في حضرة هذا الغامض الماتع الذي بمقدوره احتواء
سائر العناصر الطبيعية الأخرى والتفاعل معها دونما انتقاص من تسامي رمزيته وبعده
الطوباوي الفلسفي العميق.
النجوم تائهة/القلب حزين و... المشهد برمته
رهن تبعات مغامرة صوفية أشد التصاقا بعوالم حلاجية،والمنشود طبعا، الوطن البديل
،الأكثر إنصافا ربما للشعراء ، للإنسانية ، للشرفاء، لألسن الذوذ عنه حتى الرمق
الأخير.
هو عتاب للوطن الحالي، بأسلوب حضاري يشجب
جنائزية المشهد ودمويته . أنعم وأكرم بهكذا نوايا وهواجس إبداعية راقية دافعة
باتجاه تقمص شخصية المخلّص.
ثمة بلاد الجور، وأخرى تتم ممارسة الجور
عليها، وفي كلتا الحالتين يسقط العتاب وإن شف ورقّ ووشى بفرط الوجد والهيام بقيمة
اسمها التراب.
مسك الختام، أن العراق كما عودتنا التجارب،
يظل عصيا على العملاء والخونة والمتكالبين والغزاة الطامعين، مهما أوغلو في خطط
تفتيته وتفكيكه وإذكاء فتيل الطائفية والإثنية داخل حدوده وفي شرايينه،كون دماء
الملائكة كما يخبر الديوان، تجري في عروقه،شأن بقية البلدان العربية التي تمر
بظرفية مشابهة أكثر أو أقل حدة، وأشبه بعبور عنق الزجاجة.
والضريبة أن ابتلاء واختبارا بهذا الحجم، هو
أحوج ما يكون إلى تضحيات وشهداء وقرابين، لتقويض العروش الزائفة لآلهة الخراب،وطرد
الأرواح الشريرة والقفز فوق لحظة الجرح.
إننا عبر امتداد نصوص "الطواسين"
المطولة، بصدد تجربة تحتفي بالملاحم، وأنامل رشيقة تصنح بوحا
متقلبا بين الإيوتيكية والفناء، يدغدغ روح المتلقي ويرتقي بذائقته الفنية .بوحا
يتفشى في فضاءات تاريخية ويكتسحها من وإلى الفكرة الأم المتمحورة حول ثنائية
بغدادـــ غزة العزة،باعتماد تقنية السهل الممتنع،مع التعريج النادر إلى المصطلح
المهجور،وتبني قواميس جديدة، فضلا عن الإرتكان إلىتوليفة متناسقة جدا بين
الإيديولوجي والفني، وتلكم الفبركة المتأسسة على وعي متقد وبصيرة ترى الأبعاد
الإنسانية.
أيضا توظيف الرموز التاريخية
والدينية/الإستحضار الصارخ لمسرح الملاحم كلبنة لتشكيل ملامح الهوية الضائعة .
كذلك الهيمنة البينة لحس الإنتماء عبر جسد النص ككل، والإيقاع الداخلي وموسيقاه
الشعرية..
منظومة متكاملة متماسكة جعلت من
مجموعة"طواسين ليست للحلاج" أسطورة كلامية متسمة بديمومة الصلاحية،تنم
عن حنكة ومراس ودربة طويلة في الإرتقاء عبر مراكمة التجارب . الإرتقاء بوجد اللغة
العربية وتربيته بين الضلوع وتغذيته بدم المهج، وتعشقها خدمة لها وذوبانا في
التكريس لأهميتها الطلائعية والتحريضية من خلال ضخ الحماسة وروح الثورية الموجبة
بغية إنقاد ما تبقى من وسط خراب يتحمل مسؤوليته كل ساكت عن الحق وسياسي متلاعب
بضمائر الشعوب ومثقف رسمي تكسبي مزيف للحقائق مزور لها ، وآل الجرائم البشعة
المرتكبة في حق الأبرياء باسم الدين.
أحمد الشيخاوي/شاعر مغربي/29/05/2015
إرسال تعليق