فن التكرارميشال مافيزولي :ترجمة إدريس كثير
إذا كان هناك من مطلب للفكر ولربما هو الوحيد فهو حقا الانسجام . إننا ندور دوما حول سؤال واحد . نجتر دائما فكرة ما تبدو وجودية.وهكذا شيئا فشيئا ندقق السؤال ونعمق الفكرة.هذا هو الهوس الثقافي. وهذا ما يحرك التعطش الحقيقي للمعرفة.إنه بحث مستمر عن نقطة أرخميدس التي هي الشك.هروبا من اليقينيات القائمة ومن التطمينات المميتة للدوغمات الجافة كما الهروب من الطاعون.فهذه الدوغمات مهما كانت تنتمي الى نظام المعتقد ولا تحمل من العلمية إلا الإسم.مشبعة بكل الكليانيات فهي لا تستطيع إلا إنجاب مختلف أشكال اللاتسامح.كالوحش الذي يظهر دائما وأبدا في مختلف الأشكال وسط التاريخ الإنساني.
يجب إذن أن يقابل التفكير في نفس السؤال عدم استقرار الكائن الإجتماعي . ربما هكذ ينبغي فهم هذه الوحدة لحياة الروح التي دفعت حنا اراندت إلى القول "إننا جميعا لا نملك سوى فكرة واحدة وكل ما نقوم به ما هو إلا بناءات وتغيرات لنفس الموضوعة."
و ليس من المفارقة في شيء أن نرى في هذا الأمر الفعل الإبداعي بامتياز،الذي يتطلب الصبر و الكد و التواضع.والأمثلة في هذا الصدد كثيرة تشهد مدى الزمن على الطابع الخصب للتكرار من حيث قدرته مثلما هو شأن الصباغة على تقديم الطابع المتميز و المتعدد لبعض الأسئلة التي تشغل بال العقل الإنساني.
نعرف مثلا أن كبار الرسامين يقومون بنفس العمل .يقترحون نسخا متتالية لنفس الموضوعة. هذا ليس علامة على العقم بل على العكس من ذلك هو "إشارة "إلى أن الفنان لا يهتم "بمادة فنه" قدر اهتمامه أساسا باكتماله .يمكننا أن نذكر أسماء كبار الأسلوبيين أمثال لوتيتيان و رامبرانت ودومانتيكا دون إغفال لوغريكو طبعا.كلهم يعيدون رسم نفس الموضوعات والتيمات دون الاقتناع بالنتائج المحصل عليها. نفس الشيء بالنسبة لهذا الإبداع الآخر الذي هو إبداع الحياة اإجتماعية و التأمل الذي ينبثق عنه . كل واحد منهما لا يتم بطريقة خطية أفقية وإنما بتسارعات مختلفة متتالية. إنهما متاهة المعيش وغياهب الفكر.
فكرة واحدة وسؤال واحد.هذه مبالغة لا محالة. لكنها تبررانخراط المسعى الثقافي الحقيقي فيما نقول.وهو إنخراط لأنه إنطلاقا من التأمل يمكن لثنايا العالم أن تغدو موضوعا لهذا الأخير . الهوس والتكرار هما ما يترجمان ضرورة تواجد المفكر مع الآخرين ومع نفسه وهذا لا يتم بغرض تحقيق متعة ما وإنما لغاية إبراز الوجود الاجتماعي مع الآخرين.
1
الانسجام أو الاجترار(وإعادة الكرة) المقصود هنا هو كل ما له علاقة بما هو عادي مبتذل حسي و يومي كأساس لا يمكن تجاهله وهذا على المدى الطويل لكل الحياة الاجتماعية. مختلف الأشكال السياسية والاجتماعية تنتهي وتبقى الدوافع الجوهرية .تبقى "البقية" كما يقول باريتو تلك التي تسمح في معناها القوي باشتغال كل هذه التجمعات التحتية إلى هذا الحد أو ذاك والتي تضمن التسلسل و التتالي للروابط الاجتماعية رغم طابعها الحيواني.
عالم متلاحم في ذاكرة عتيقة .هذا شعار ملائم.كما يظهر في الانتماء إلى الآخرين وفق الأذواق والأصول والأحلام والتواريخ والأساطير المشتركة ،الإنتماء إلى التراب إلى الطبيعة إلى منظر مشترك .إنه طابع اجتماعي أساسي يحتوي على جزء كبير من اللاشعور غير المصرح به طبعا ومن الخيال المطلوب .طريقة أخرى للتعبيرعن إرادة العيش الحرونة هاته التي تجعل الحياة تستمر بطريقة غريبة رغم الأزمات وتحول القيم دون الحديث عن التقلبات السياسية والاقتصادية وتسمح بالتلاؤم مع مختلف التبدلات.
هذه هي المسألة . لكن كيف يمكن صياغتها بطريقة أفضل؟ يتعلق الأمر هنا برهان إبستمولوجي غير موقوف على بعض مالكي المعرفة المرخص لهم إنما هو ملك مشترك . معرفة عادية يجب تحيينها بالمعنى الإيتيمولوجي "للإبداع" أي الإتيان بالشيء إلى واضحة النهار. بكلمة " قول ما هو كائن والتفكير فيه وفيما عاشه سلفا العدد الهائل من الناس الذين ننتمي إليهم ما دمنا لا نعزل أنفسنا عن الحياة المشتركة."
نشعر اليوم بشكل واضح أن النظريات الكبرى التي تمت بلورتها في الغرب لم تعد تستلزم الإنتماء ولم يعد لها شعوريا أو لاشعوريا قوة القانون . ففي كل مكان تبزغ وضعيات وجودية جديدة لها صلة بتمثل الجسد الإجتماعي أو الفردي .وهناك موقف جديد بدأ في البروز تجاه الطبيعة . باختصار شديد هناك تكتيك جديد تجاه الحياة بدأ يرى النور. وعليه يجب إنشاء الصيدلية الإبستمولوجية التي يمكنها بكل بساطة اقتراح علاجات للعلاقات التناوبية مع الغير وهي تنمو أمام أعيننا.
وكما يمكن أن نلاحظ ذلك في ظروف مماثلة فإن تغيرا كهذا يستدعي الاجترار وإعادة مضغ تلك الأفكار المهيمنة القليلة المشار إليها سابقا . وإنضاجها بالملاحظة المتأنية التي تملأها بالمعنى . لتحقيق ذلك لا بد من غربلة كل الآراء العالمة التي قاربت الموضوع الإنساني والإبقاء على تلك التي تحتل الصدارة في السلم المؤسساتي .
فعلا هناك تحليلات تبدو فوق كل ريب وهي كذلك من الناحية الشكلية ربما .لكننا نحدس كل ما فيها من اصطناعي واتفاقي .لأنها بعيدة عن الواقع الاجتماعي وإذن عما هو وجودي . في هذه التحليلات المؤسساتية يجب إخضاع العقل للاختبار أمام هشاشة ما هو حي . وهذا لايعني تحطيمة وإنما عكس ذلك إغناؤه. هنا يلتقي المفكرون الكبار بالشعب الذين يشعرون ويعرفون بأن الأهم ليس هو الجواب إنما السؤال .
2
يمكننا الإشارة هنا إلى فيدجنشتين الذي "يعتبر أن الصعوبة لا تكمن في العثور على الحل وإنما في معرفة الحل انطلاقا مما يبدو مقدمته ." إننا نبحث خطأ عن الشرح في حين أن وصفا بسيطا يشكل حلا للصعوبة.
هناك حساسية نظرية لم نعتمد عليها بعد . أقول حساسية نظرية مها بدت العبارة صادمة . لأنها تعتمل بالضبط في مستويات مختلفة . في الرسائل العلمية في صحافة الرأي في البرامج السياسية أو في الإيديولوجيات الخاصة بمختلف الفاعلين الإجتماعيين . كلهم مشروطون بنزعة ثقافية معترف بها إلى هذا الحد أو ذاك تمنع أخذ الوازع الاجتماعي بعين الاعتبار . ولا يسمح بإدراك الرجوع إلى المحايثة في الهنا والآن المرتبط بنيويا بعودة الشعور التراجيدي للوجود.
لا يجب أن ننسى أن هناك علاقة وطيدة بين الأرثدوكسية والأورتوكراسية أو بين المعرفة الأكيدة وشطط السلطة. لقد سبق لجون كرونيي أن أكد فيماذا يمكن للأرثودوكسية الناجمة مباشرة عن الاعتقاد أن تكون مذهبا للإقصاء . يجب فهم هذه الأخيرة في معناها الضيق أي إقصاء أولئك الذين لا يفكرون بشكل مستقيم أي الذين لا يفكرون بشكل ملائم كما نقول اليوم. إقصاء أيضا للموضوعات أو المواضيع ولطرق مقاربتها التي لا يمكن مباشرتها . لنقل ذلك صراحة إن فكرة الحقيقة هي دوما محلا بامتياز للدوغمائية ، حجر الزاوية لكل الأرثودوكسيات سواء كانت دينية أو فلسفية أو علمية.
يمكننا أن نسجل أيضا أن التشنج والتوتر الأرثودوكسي واستيهام الحقيقة هما علامة من علامات الضعف . ذلك أن التمثل المتأكد من نفسه للعالم لا حاجة له في الإقصاء. إنه يحيا على العكس من ذلك في الصخب الثقافي والوجودي . لنأخذ مثالا من ضمن آلاف الأمثلة : إصدار قانون "عصمة البابا" المتوج لرومانية الكنيسة الكاثوليكية سنة 1871 كان مؤشرا أكيدا على انحطاطها.
ربما يجب العودة للتفكير في هذا الصخب إلى هؤلاء المؤلفين غير الخاضعين للزمن شعراء وفلاسفة ومفكرين مشاغبين أمثال نيتشه الذين يدعون إلى تسليط الضوء على اللاعقل في الأفعال الإنسانية دون ذهول ولا اندهاش لتطوير المعرفة الإنسانية بهذا المسعى . الإنسان المقصود هنا ليس هو الإنسان عامة وإنما الإنسان الخاص لما له من حيوية . إنه الإنسان الملموس و ما يربطه بأشباهه هو الذي يسمح بإدراك "ما يمنح اللون للوجود" (نيتشه) .
عندئد ليست الحقيقة هي ما يهم. لنترك ذلك للقساوسة ، إنما الأهم هو هذا القليل من الحقيقة الذي نعثر عليه في طريقتنا لعيش زمننا .أي في العاب الهوى وفي فن السكن واللباس . إجمالا فيما يمكن نعته ب "التجميلات المتعالية "كوسيلة للتلاؤم مع العالم في كليته ، مع المحيط الطبيعي والإجتماعي .
إن" ألوان الوجود" هاته هي التي تستدعي المساءلة المطابقة . فيما وراء التميزات القطعية و النظريات و المفاهيم المنغلقة ، يجب العثور على "الكلمات" المناسبة و العودة ربما إلى الأفكار العتيقة التي تستطيع التعبير بما هو أفضل عن غموض والتباس الحلم والواقع، والحساسية والعقل .الإحساس بالفكر والتفكير بالإحساس . المساءلة هي دوما في الهاوية كما هو الأمر في بعض الصباغات الوسطوية . فهي تكشف كما تضمر(الإسرار).وهي جدل العمق والسطح فيما وراء إستيهام
الواحد و المعنى الوحيد، والمسيرة الملكية للتقدم ...فهي تذكرنا دوما بتعدد المعاني البنيوية التي تسردها الأساطير و الحكايات و الخرافات بكل فرح . ذلك أن هناك شيئا يعد من مسؤولية كل واحد منا ألا وهو تشفير العودة إلى البدايات الأولى و الجديدة للحياة بواسطة أوجه قديمة خيالية واجتماعية .
لكن لامتلاك هذه الفكرة لا بد من فتح مكان واضح ، لا بطريقة جدالية وهي مضيعة للجهد ولكن بطريقة نستطيع التعرف فيها و أحيانا بقوة على الطابع الأكثر استعمالا لمختلف النظريات الاجتماعية عن كشف حساب الأشكال الجديدة للتواجد الاجتماعي .
يشير كارل مانهايم في كتابه "الأيديوليوجية والطوباوية" إلى التفاوت الموجود في بعض الأحيان بين التصورات المجردة و بين ما يسميه "نظام الحياة الإجرائي واقعيا" وهو تفاوت موجود في المؤسسات الإنسانية ذات الميولات الناجمة عن الجاذبية السوسيولوجية المقاومة للغليان الثقافي الذي أفرزها .
إرسال تعليق