(بخور ورمان وعرس بدوي على إيقاع الأغاني القديمة، وغشت يُشهِر ألواحه على ثوار الشاوية، ثم ملامح قصيرة، للضرورة، من سيرة الكاتب)
اعْلاَشْ دْخَلتْ جْنانْ المشماش؟
قررتُ، في شهر غشت، التحرر من كل شئ يربطني بالشهور الفائتة.. فلم أعٌد أقْرَبُ الكتابة أو جهاز الكومبيوتر كما تخليتُ عن الاطلاع على البريد الاليكتروني، وخاطبت أصدقائي بتأجيل لقاءاتنا بمقهى الشاوية إلى ما بعد العاشر من سبتمبر.
صرتُ حرا إلا من علاقتي بنفسي وعائلتي والأرض. وربما الأمر ليس هكذا، وإنما هو مرتبط بحالة أخرى.. فمع دخول غشت غمرتني الحياة مثل مَدٍّ هادرٍ حتى غطَّتني كاملا ولم يَعُد رأسي يتنفس خارج شلاَّلها الذي يجرفني مثل ريشة عصفور أو ورقة مشماش.. فصرت كما أريد لنفسي مواطنا بدون قيود أو التزامات، ينتمي إلى أرضه ومواطنيه، منشغل وغير منشغل أيضا. وفي هذه المرحلة تبدو لي الكتابة - ضمن قناعات أكثر جذرية وإحساس يؤمن البداهة والحدس - تبدو لي ضعفا ووهما وانشغالا في الاختلاق والتلفيق، وهو أمر يُناقض الحياة التي هي الشكل التعبيري الأضخم والأقدر على احتواء كل شئ.
في هذه اللحظات أكون بعيدا عن الرغبة في الكتابة، متبرما منها.. فأنسى الكلام والقول قليلا.. هل هي حالة من الوحم الطبيعي في نفسي التي تختمر بها عناصر جديدة؟
الكتابة بالنسبة لي مثل عرصة من كل الفواكه، أخرج منها وأعود إليها كلما غمرتني رائحة فاكهة جديدة.. وفي كل دخول تسألني نفسي لماذا دخلتُ جْنان المشماش؟
سعدتُ مثل طفل بدخول فاكهة الرمان الذي اعتبره أهم فاكهة في هذه الدنيا.. وهو الأمر الذي يتبادر إلى خاطري حينما يُطِلُّ المشماش و الخوخ والعنب والبطيخ.. فواكه تصبح جزءا من حياتي اليومية ومن متعة ربانية في هذه الدنيا.
دم السلالة
عالمَان منفصلان داخل البيت وخارجه، أعيشهما بشكل يومي ودائم.. يحياهما كل إنسان بانشغالاتهما وتدابيرهما المتقلبة. خارج البيت هو جوهر الصراع والقسوة وإنْ بدا في لحظات محسوبة غير ما يجري، لذلك أغبط العديد من أصدقائنا على عالمهم الموحد البسيط والروتيني والذي يجدون فيه متسعا من الوقت لعيش الفراغ بكل أشكاله، حتى إنهم كل مساء يجدون فائضا زمنيا لا يعرفون ماذا يفعلون به !
أما عالم البيت فهو عندي لحظة هُدنة وترتيب للقادم، بعيدا عن مجازفات اليومي.أدخل البيت لأتحرر من عهود طاحنة وملابسات اليومي. لذلك فإنني داخل البيت ،فضلا عن القراءة والكتابة، في الصباح الباكر أو في لحظات من نهاية الأسبوع اضطرارا، أعيش الحياة التي أريد. مثلا، يروق لي ثلاث مرات في الأسبوع على الأقل، من ضمن هواياتي الخاصة، أن أستخرج صندوقا نحاسيا صغيرا أخبئ فيه عددا من أهم أنواع البخور، ذات أصول هندية ويمنية. أتفقدها بتؤدة وتأمل يعتمد اللمس والشم والإحساس الداخلي ثم أختار النوع الذي سأمنحه فرصة مشاركة أنفاسي وأنفاس أسرتي.
تعمل زوجتي على ترتيب واستكمال عملية توزيع البخور على البيت فتصبح الروائح التي عطرت المكان جزءا من حياته وحياتنا، يزيده طبق من الورود المجففة يتوسط البيت، بهاء وديمومة.
ويهمني كثيرا الاعتناء بهذا الصندوق والطبق المصنوع من الدوم مثل عقود أعزها وأستريح لها، ولا أرى من ينوب عني في الإحساس بها والبحث باستمرار عن المؤونة التي أختزنها لفصول السنة من أجود البخور ، فيما لا أستعمل العطور الكيميائية.
فاصل
غشت شهر التذكر والتطهر، يختزل أعمارنا ويُعيدنا إلى الطبيعة الأولى في علاقة مباشرة مع هوِّياتنا. ومن خصيصاته أن فجره يحمل نكهة حزينة، بينما غروبه ملئ بالفرح والأسرار.
كنتُ وما زلتُ مفتونا بهذا الفجر الذي يتمطط كَمَدِّ الحياة لكفِّها الخرافي السخي على الحقول بوعوده اليومية ومفاجآته المركونة في خزائنه المغلقة.كل شهر أو فصل يكون لفجره لون وصوت وأحاسيس وأسرار، لكن فجر غشت حزين، به ضجر خفيف يخفيه ولا يعلنه، على عكس دسمبر ويناير.
أما غروب غشت – كما أتخيله باطمئنان – فإنه مثل الفقيرة الى الله مريم، ابنتي، ومن قبل كنت أراه في صورة الولية الطاهرة فاطنة بنت الطاهر، جدتي،. فجأة خارج مواقيت الزمان الطبيعي، يبدأ غروب هذا الشهر في التشكل من عناصر ومواد روحانية تعكس دهشة غريبة في النفس كما لو انها دهشة الأنبياء الأولى التي ورَّثوها لنا لما سقطت على الحقول والقلوب.
دم التراب
حياتنا مليئة بالاعتقادات والظن والاحتمال واليقين البديهي.. وهي التي تفتِل رؤيتنا وترسم لها أقدارها إلى جانب الثوابت الكبرى.
كيف نُكيِّف تلك الاعتقادات والقواعد التي نراكمها فتصبح جزءا محركا لحياتنا ولثوابتنا أيضا؟
بالنسبة لي هناك هوية أخرى قوية، في حياتي، تبنيها علاقتي بفكرة "العائلة" ثم الأرض، كلاهما يحققان نظاما معقدا تصبح فيه حياتي الأخرى بالدار البيضاء، في العمل أو خارجه، جزءا تابعا للقيم التي تحكم هويتي.
هوية الدم في العائلة التي لها عرَّابٌ واحد هو بويا كما ندعوه جميعا، بينما يدعوه الأطفال والنساء بالأب الكبير، وهي تؤدي نفس المعنى الذي يجعل من محمد بن عبد السلام، بويا، عرَّابا له عائلة صغيرة داخلية، وأخرى كبيرة خارجية من أصدقائه ورفاقه.له صفات القائد والحكيم والأمين، من صفاته القسوة والعفو. لا يصل إلى يقين ما إلا عبر الظن والتخمين وحدوسه الروحانية.
مع تعاقب الأيام صرتُ مساعدا لبويا وخزينة أسراره، أساهم إلى جواره في ترتيب القرارات. أمي تقول إني نسخة منه في شكل جديد.
في هذه الهوية، بدون وضعي في هذا النظام سأحس بالنقص، لأن دم السلالة حصن عال للنفس والروح والقيم، سلالتي القريبة جدا من أنفاسي أو سلالتي التي يربطني بها المكان والأرض والجهة بكل التراب الظاهر والغابر.
علاقة معقدة، ناتجة بالتأكيد عن نظام سلالي يربطنا بأجدادنا وبالأحداث التي عاشوها، وأعيد اليوم تأويلها. هو نفس نظام الثوار، وربما لكوني كاتبا وأستاذا جامعيا، أجدُ في الأرض التي أنتمي إليها، في تاريخها وتاريخ رجالاتها ونسائها مادة ثرية لأيقونات كونية، ولخصوصية أُعَبِّرُ بها عن رموز تنطلق من الجزئي والهامشي، من الحدثي والشخصي لتصبح شيئا كليا ومركزيا وجمعيا.
بين هوية العائلة وهوية المكان تختلط ثقافات شتى، عروبية وامازيغية وافريقية تعبر عنها أنظمة وأنساق دائمة التشكل، لذلك ليست لي – بتاتا – طموحات في المجال المهني أو أني أبحث عن سبل، كيفما كانت، لأصبح مثلما يحلم الكثيرون قناصلة في الداخل وفي الخارج. يكفيني فقط اني سليل أنبياء هذه الأرض وأوليائها وثوارها، ومفوض للدفاع عن رسالاتهم وأحلامهم، ونشر نبضات أرواحهم التي لا تتوقف أبدا.
كثيرا ما أتأمل
تتمة
اعْلاَشْ دْخَلتْ جْنانْ المشماش؟
قررتُ، في شهر غشت، التحرر من كل شئ يربطني بالشهور الفائتة.. فلم أعٌد أقْرَبُ الكتابة أو جهاز الكومبيوتر كما تخليتُ عن الاطلاع على البريد الاليكتروني، وخاطبت أصدقائي بتأجيل لقاءاتنا بمقهى الشاوية إلى ما بعد العاشر من سبتمبر.
صرتُ حرا إلا من علاقتي بنفسي وعائلتي والأرض. وربما الأمر ليس هكذا، وإنما هو مرتبط بحالة أخرى.. فمع دخول غشت غمرتني الحياة مثل مَدٍّ هادرٍ حتى غطَّتني كاملا ولم يَعُد رأسي يتنفس خارج شلاَّلها الذي يجرفني مثل ريشة عصفور أو ورقة مشماش.. فصرت كما أريد لنفسي مواطنا بدون قيود أو التزامات، ينتمي إلى أرضه ومواطنيه، منشغل وغير منشغل أيضا. وفي هذه المرحلة تبدو لي الكتابة - ضمن قناعات أكثر جذرية وإحساس يؤمن البداهة والحدس - تبدو لي ضعفا ووهما وانشغالا في الاختلاق والتلفيق، وهو أمر يُناقض الحياة التي هي الشكل التعبيري الأضخم والأقدر على احتواء كل شئ.
في هذه اللحظات أكون بعيدا عن الرغبة في الكتابة، متبرما منها.. فأنسى الكلام والقول قليلا.. هل هي حالة من الوحم الطبيعي في نفسي التي تختمر بها عناصر جديدة؟
الكتابة بالنسبة لي مثل عرصة من كل الفواكه، أخرج منها وأعود إليها كلما غمرتني رائحة فاكهة جديدة.. وفي كل دخول تسألني نفسي لماذا دخلتُ جْنان المشماش؟
سعدتُ مثل طفل بدخول فاكهة الرمان الذي اعتبره أهم فاكهة في هذه الدنيا.. وهو الأمر الذي يتبادر إلى خاطري حينما يُطِلُّ المشماش و الخوخ والعنب والبطيخ.. فواكه تصبح جزءا من حياتي اليومية ومن متعة ربانية في هذه الدنيا.
دم السلالة
عالمَان منفصلان داخل البيت وخارجه، أعيشهما بشكل يومي ودائم.. يحياهما كل إنسان بانشغالاتهما وتدابيرهما المتقلبة. خارج البيت هو جوهر الصراع والقسوة وإنْ بدا في لحظات محسوبة غير ما يجري، لذلك أغبط العديد من أصدقائنا على عالمهم الموحد البسيط والروتيني والذي يجدون فيه متسعا من الوقت لعيش الفراغ بكل أشكاله، حتى إنهم كل مساء يجدون فائضا زمنيا لا يعرفون ماذا يفعلون به !
أما عالم البيت فهو عندي لحظة هُدنة وترتيب للقادم، بعيدا عن مجازفات اليومي.أدخل البيت لأتحرر من عهود طاحنة وملابسات اليومي. لذلك فإنني داخل البيت ،فضلا عن القراءة والكتابة، في الصباح الباكر أو في لحظات من نهاية الأسبوع اضطرارا، أعيش الحياة التي أريد. مثلا، يروق لي ثلاث مرات في الأسبوع على الأقل، من ضمن هواياتي الخاصة، أن أستخرج صندوقا نحاسيا صغيرا أخبئ فيه عددا من أهم أنواع البخور، ذات أصول هندية ويمنية. أتفقدها بتؤدة وتأمل يعتمد اللمس والشم والإحساس الداخلي ثم أختار النوع الذي سأمنحه فرصة مشاركة أنفاسي وأنفاس أسرتي.
تعمل زوجتي على ترتيب واستكمال عملية توزيع البخور على البيت فتصبح الروائح التي عطرت المكان جزءا من حياته وحياتنا، يزيده طبق من الورود المجففة يتوسط البيت، بهاء وديمومة.
ويهمني كثيرا الاعتناء بهذا الصندوق والطبق المصنوع من الدوم مثل عقود أعزها وأستريح لها، ولا أرى من ينوب عني في الإحساس بها والبحث باستمرار عن المؤونة التي أختزنها لفصول السنة من أجود البخور ، فيما لا أستعمل العطور الكيميائية.
فاصل
غشت شهر التذكر والتطهر، يختزل أعمارنا ويُعيدنا إلى الطبيعة الأولى في علاقة مباشرة مع هوِّياتنا. ومن خصيصاته أن فجره يحمل نكهة حزينة، بينما غروبه ملئ بالفرح والأسرار.
كنتُ وما زلتُ مفتونا بهذا الفجر الذي يتمطط كَمَدِّ الحياة لكفِّها الخرافي السخي على الحقول بوعوده اليومية ومفاجآته المركونة في خزائنه المغلقة.كل شهر أو فصل يكون لفجره لون وصوت وأحاسيس وأسرار، لكن فجر غشت حزين، به ضجر خفيف يخفيه ولا يعلنه، على عكس دسمبر ويناير.
أما غروب غشت – كما أتخيله باطمئنان – فإنه مثل الفقيرة الى الله مريم، ابنتي، ومن قبل كنت أراه في صورة الولية الطاهرة فاطنة بنت الطاهر، جدتي،. فجأة خارج مواقيت الزمان الطبيعي، يبدأ غروب هذا الشهر في التشكل من عناصر ومواد روحانية تعكس دهشة غريبة في النفس كما لو انها دهشة الأنبياء الأولى التي ورَّثوها لنا لما سقطت على الحقول والقلوب.
دم التراب
حياتنا مليئة بالاعتقادات والظن والاحتمال واليقين البديهي.. وهي التي تفتِل رؤيتنا وترسم لها أقدارها إلى جانب الثوابت الكبرى.
كيف نُكيِّف تلك الاعتقادات والقواعد التي نراكمها فتصبح جزءا محركا لحياتنا ولثوابتنا أيضا؟
بالنسبة لي هناك هوية أخرى قوية، في حياتي، تبنيها علاقتي بفكرة "العائلة" ثم الأرض، كلاهما يحققان نظاما معقدا تصبح فيه حياتي الأخرى بالدار البيضاء، في العمل أو خارجه، جزءا تابعا للقيم التي تحكم هويتي.
هوية الدم في العائلة التي لها عرَّابٌ واحد هو بويا كما ندعوه جميعا، بينما يدعوه الأطفال والنساء بالأب الكبير، وهي تؤدي نفس المعنى الذي يجعل من محمد بن عبد السلام، بويا، عرَّابا له عائلة صغيرة داخلية، وأخرى كبيرة خارجية من أصدقائه ورفاقه.له صفات القائد والحكيم والأمين، من صفاته القسوة والعفو. لا يصل إلى يقين ما إلا عبر الظن والتخمين وحدوسه الروحانية.
مع تعاقب الأيام صرتُ مساعدا لبويا وخزينة أسراره، أساهم إلى جواره في ترتيب القرارات. أمي تقول إني نسخة منه في شكل جديد.
في هذه الهوية، بدون وضعي في هذا النظام سأحس بالنقص، لأن دم السلالة حصن عال للنفس والروح والقيم، سلالتي القريبة جدا من أنفاسي أو سلالتي التي يربطني بها المكان والأرض والجهة بكل التراب الظاهر والغابر.
علاقة معقدة، ناتجة بالتأكيد عن نظام سلالي يربطنا بأجدادنا وبالأحداث التي عاشوها، وأعيد اليوم تأويلها. هو نفس نظام الثوار، وربما لكوني كاتبا وأستاذا جامعيا، أجدُ في الأرض التي أنتمي إليها، في تاريخها وتاريخ رجالاتها ونسائها مادة ثرية لأيقونات كونية، ولخصوصية أُعَبِّرُ بها عن رموز تنطلق من الجزئي والهامشي، من الحدثي والشخصي لتصبح شيئا كليا ومركزيا وجمعيا.
بين هوية العائلة وهوية المكان تختلط ثقافات شتى، عروبية وامازيغية وافريقية تعبر عنها أنظمة وأنساق دائمة التشكل، لذلك ليست لي – بتاتا – طموحات في المجال المهني أو أني أبحث عن سبل، كيفما كانت، لأصبح مثلما يحلم الكثيرون قناصلة في الداخل وفي الخارج. يكفيني فقط اني سليل أنبياء هذه الأرض وأوليائها وثوارها، ومفوض للدفاع عن رسالاتهم وأحلامهم، ونشر نبضات أرواحهم التي لا تتوقف أبدا.
كثيرا ما أتأمل
تتمة
إرسال تعليق