جولة في "مصحة الدمى"
للكاتب المغربي أنيس الرافعي.:إبراهيم أبويه
1-
وأنا أقرأ " مصحة
الدمى "، (الفوتوغرام الحكائي) الجديد للكاتب المغربي أنيس الرافعي (دار
العين ، القاهرة ، 2015 ) ، وجدتني متريثا، بل قل متوجسا ، إذ ما يتراءى أمام
ناظري هو من دون ريب فخاخَ محتملة، و سرد مخاتل ومدجج حد العنق بطروس من الرسوم ،
و الرموز ، و بيادق شطرنج موزعة على رقعة بيضاء. فها هو خيالي يقودني صوب طوابق
تحرسها أجساد وهمية، وإلى ملاقاة كائنات تطرق أبوابا خفية . ما ترسب ، إذن ، بين
ثنايا ذائقتي شكل غير مسبوق ومختلف من أشكال القصة القصيرة . يمزج بين الكتابة
والصورة، بين القراءة والمشاهدة. يقول السارد في ( النسيجة ) : " إذ لا محيد
في عرف الصنائع من تراصهما وتضافرهما وتجاورهما وتقابلهما وتوازيهما، فيما يشبه
إعادة وصل حاستين، لا تنجلي وظيفتهما إلا بتوحدهما وتخاصرهما داخل جسد
واحد.". كل هذا يذكرني بفن( الكوميكس ) . لكن ، ترى كيف تم استضمار هذا الفن
واستضافته داخل أحياز القصة القصيرة؟ وما هي الجماليات النوعية الكفيلة بتحقيق هذا
التحايث التخومي دون المساس بالأطر الأجناسية لكل منها ؟ وهل يمكن أن يتولد عن هذا
الاستضمار نوع ثالث ؟ .
فالظاهر ، أن أنيس الرافعي يقدم لنا
في هذا العمل وثيقة سردية تجريبية ، يطمح لأن تشكل نمطا مهما للتفكير في الكتابة
التي تتخذ من الرؤية والإستراتيجية، المعنى والوظيفة، تعدد وسائل الحكي الواعي،
استحضار الآخر (القارئ) وإقحامه في المشروع، و انسجام الكتاب القصصي وتناسق تيماته
بحنكة في الخلق والإبداع ، وإنتاج مظاهر الصورة وتحليلها ضمن سياق السرد. فالكتابة
عند أنيس الرافعي، فعل مفكر فيه بشكل هندسي دقيق ، وليست قدرا. إنه صانع أساليب
ومكتشف أراض عــــــذراء . وأعتقد أن الأدوات النقدية التقليدية ، غير قادرة على
تفكيك هذه الأساليب وعلى ابتداع بوصلات للوصول إلى تلك الأراضي البكر . نحن في "
مصحة الدمى" أمام تشكيل جديد
للحكاية، يتخذ من مضامينها جوهرا للشكل الفني الخلاق، ويجعلها بوابة للإبحار في
عوالم متخيلة تغوص في قضايا الذات، وتحلل أدق أعماقها، حتى لتكاد تكون متاهة على
القارئ التريث قبل ولوجها والضياع بداخلها نهائيا.
2-
أهو (فوتوغرام حكائي)، أم زقاق جديد
لم ترتده روحك من قبل؟ زقاق فارغ وموغل في الظلام. ممرات بالأبيض والأسود، صور الظاهر
والباطن، صراع الكائن وظله، حدود الكلام والصمت، الرسم والصورة. كثير من الثنائيات
التي تشكل برزخ الفراغات، وتبعث الحياة في تلك الدمية، أو الدمى التي تستوطن
دواخلك ولا تستطيع رسمها على صفحة وعيك . ترى أتكون الدمية ما لا نستطيع أن نبوح
به في أوقاتنا العصية . يقول السارد : " ثمة وقت مهمل وقذر يغوص الكائن في
وحله، ولا تشير إليه الساعات ."
وانطلاقا من هذا البعد السيكولوجي ،
يجوز أن ننتقل إلى ضفة أخرى متسائلين : كيف نعطي للحكاية بُعدها الثقافي؟ ونسقط
هذه الأبعاد على ما هو سياسي أو اجتماعي ؟ فالدمى ليست مجرد دمى . بل إن أياديها
تمتد إلي ما هو أبعد وأعمق . أحدس أن " لاوعي النص " يضمر أسئلة حارقة
من هذا القبيل،و الأجوبة عنها قد تتأتى بانجاز جولة داخل ردهات وأقسام وأجنحة "
المصحة ".
3-
في الحقيقة ، لا أريد أن أكون يدا
حمقاء، ولا أرغب في صناعة فستان على غير مقاس هذا (الفوتوغرام الحكائي). كل ما
أسعى إليه عبر قناة هذه القراءة العاشقة ، هو اكتساب رفقة ومصاحبة ، وشراء سرير
ثالث، يجعلني جزءا من هذه "المصحة". ولهذا لعبتُ دور المريض، لأستفيد من
إقامة تُشفيني. ومادام المريض دائم الرُّقاد، فقد زرعتُ حدقتين على سواد الحكاية،
واقتنيت حاسبة لأحصي الأعداد والكلمات، الصور والرسوم، الأقسام والأشياء، وها أنا
أخرج بخلاصة مفادها أن الكاتب لم يأت بجديد، بل عاد بنا إلى لحظات التكوين، حيث
نشأت تلك العلاقة بين اللغة والرسم، وتمكنت من جعل الحكايات تأخذ أشكالا شبيهة
بالبالونات أو الفقاعات العملاقة، وأن تصنع تلك الشخصية الخيالية التي نبتت أصلا
في الواقع، ثم انتقلت إلى عوالم الخيال باحثة عن كيان جديد يمنحها الأمكنة
والأزمنة المناسبة، ويهبها الحرية كاملة في بيئتها الحاضنة لخصوصياتها النفسية
والفنية أيضا.هذا ، في تقديري الشخصي ، هو جوهر فن (الكوميكس) الذي اعتمده هذا (الفوتوغرام
الحكائي). فلذة القراءة تكمن في توظيف الأشكال وجعلها تتكلم وتعمل أيضا، وتؤثر في
مسار الشخصيات التي تحتجزها الأحداث، في "المصحة".
4-
إن الدمى التي تبدو مخيفة في الصور
والرسومات المنتشرة داخل (الفوتوغرام)، تصبح عائقا أمام بنية المعنى، فهي، رغم
كونها أشكالا وقوالب فارغة، استطاعت، بإيعاز من الكاتب، أن تخلق الإشكالية التي
تُرابط في الأعماق . فهي الساهرة على سلامة المعنى، (النسيجة) التي تؤلف بين
عالمين يقعان في تقابل، بينهما جدار فاصل. جدار الروح التي استقرت في عزلتها، ثم
استفاقت "ما بين ظلام الغريزة ودكنة ما دون – الوعي "، والتي لا يستطيع
الإنسان الإفصاح عن جوهرها، ولا إزالتها عن طريقه حتى لا يصطدم بنفسه الثانية
ويرتطم بأعماقه المرعبة . تلك التي تحدث عنها " باسكال " ذات يوم وسماها
ﺒ " الأمداء".
لماذا (الكوميكس )، إذن ، للتعبير
عن هذه الجواشن ؟ يعرف الكاتب أنيس الرافعي أن (الكوميكس) ليس ابتعادا عن الواقع،
ولا رسما انعكاسيا له. فكلما ارتبط هذا الفن بمنطق الواقع الخارجي، كلما ضمِن
العلاقة بين الكاتب والمتلقي، باعتبارهما قطباَ تواصل يحقق كل واحد منهما متعته
الخاصة، من خلال تشييد متحف نفسي تفاعلي كما هو الحال في نظرية "علم النفس
التفاعلي" عند "إيريك بيرن"، التي أثبتت أن للإنسان طبيعة نقدية
متغايرة، فهو يحوى في أعماقه عدة أشخاص في شخص واحد ، ويحمل في طياته صراعا حادا
بين الرغبات المتعارضة (الهدم والبناء،الخير والشر). وتلك حقائق أوضحها " فرويد
" في نظريته عند تحليله للصراعات والمخاوف اللاشعورية التي استخرجها فى
تحليله لمستدعيات مرضاه إكلينيكيا. هذا يجعلنا نفكر في طريقة صياغة هذه الصراعات
داخل المتن الحكائي، وجعلها محاكية للوجود الفكري والجسدي. نجد هذا الوعي كذلك عند
"ديكارت" مثلا، فالوعي بالذات يتقاطع مع الوجود الفكري. لكنه يفتقد إلى
وجود حقيقي يتمثل في الإدراك الحسي، أي التجسد. وهذا ما سماه" نيتشه " ﺒ
" كوجيتو الجسد". يقول الكاتب في الصفحة 80 :"أوصالك اكتسبت رخاوة
عجيبة، ولحمك أضحى في طور تحوله التدريجي،إلى مطاط أو ربما شمع أو بورسلين أو مادة
مشابهة، كما لو أن جسدا جديدا استهل عملية احتلال جسدك السابق...".
5-
وبالاستناد إلى ما سلف ، يمكن أن
نسوق التساؤل التالي : أي سرد حكائي سيوصل شحنة الدلالات دون خدش كيانها المنطقي
المبني على مخرجات الخيال؟ إنه حتما (الكوميكس)، الذي يقدم شخصيات قاعدية، وشخصيات
مثال. فالشخصيات القاعدية ،إجمالا، هي الشخصيات التي يراها المرء في كل لحظات
حياته، وتشكل بالنسبة له نوعاً معيناً، فالمحاسب مثلا هو رجل يرتدي ثياباً معينة
وبنظارات على وجهه ( في إيحاء أن نظره ضعيف لأنه يعمل طوال الوقت بالأرقام
والحسابات) وقد تم تقديم هذه الشخصيات بدايةً لأنها الأسهل في الرسم والتوقع، أي أن
القارئ/المشاهد يعرف نوعية الشخص دون أن يشرح أحدٌ له شيئاً، وهذا بالتأكيد يسهّل
مهمة الكاتب والرسام معاً. بنفس الوقت قدمت (الكوميكس) الشخصيات المثال، فكان
البطل بشكلٍ أو بآخر يتغلب على خصومه الخارجيين وشياطينه الداخلية معاً.وهو الطراز
الذي نلفيه في " مصحة الدمى ". يقول السارد : " النباح كان يهتاج
كل ليلة والنهر يزداد هديره، كأنما يطالباني بجلب المزيد من الدمى.الدمى التي كانت
مواكب تتوالد وتتكاثر فوق الأغصان مثل طيور ضخمة لا تطير...بل بدوري كنت أعلق نفسي
على أفنان الشجر، وأتمايل معها على خفق الريح. أتمايل فيبرد جمر الصدر، أتمايل
فتخرج شظية حزن من القلب."ص 81/82
6-
إستراتيجية (الكوميكس) المعتمدة في "
مصحة الدمى" ،كاختيار سردي واع يمزج الصورة قصديا لملإ حقول المعنى العصيّ،
لم يكن فحسب بهدف إحقاق غاية جمالية، أو تميزا شكليا فارغا ، أو حتى تجريبا
مغامرا. بل إنه اختيار استراتيجي غاية في الدقة. كيف ذلك؟ نحن نعلم أن فن
(الكوميكس ) يرتكز في جوهره على مفهوم مركزي : الحرية في الاختيار، في المعتقد، في
التصرف، في الفعل و العمل، ويؤكد على أن أقوى صفات البشرية هي قدرتها على
الاختيار، ولهذا يبدو (الكوميكس ) صريح الأهداف : إن اختيارك أساسي وحمايته واجب
مقدّس، من هنا نجد أن جميع الأبطال في "مصحة الدمى" يتحدثون بشكلٍ كامل على أن أهم ميزة عند
الكائنات الحية هي الاختيار.
وأتصور أن تعدد المنظورات داخل
الكتاب يمثل بدوره شكلا من أشكال الاختيار. لنتأمل هذا المقطع : "مظلتي التي
أغفلت حملها معي قبل الخروج. ترى هل أغفلتها على سبيل السهو،أم تعمدت ذلك بمحض
إرادتي؟" ص 91 . إن هذا النوع من ( الكوميكس ) يتيح أيضا بناء نسق يعيد ترتيب
العلاقات على نحو مشتهى بواسطة التفات الضمائر ومراوحات الرؤية السردية ، على
قاعدة من المفاهيم والشخوص والأحداث التي يتخللها (الجوكر)، ذلك العنصر الذي يتحرك
في كل اتجاه على رقعة شطرنج القصة القصيرة ، بلا منطق ولا قوانين مألوفة .
7-
إن (الفوتوغرام الحكائي)
في " مصحة الدمى" ، يتيح إمكانية الرؤية، الرؤية الملتبسة للعالم حد
الجنون والخبل والتيه .وجود جثة ، وجود دمية مانيكان، حضورها القسري رغم الحرص على
إغلاق كل المنافذ والأبواب بشكل صارم، يخلق البلبلة والافتراضات المدوخة . نفتلذ
من الكتاب المقطع الدال التالي : " هل هي دمية مانيكان فعلا،أم دمية مانيكان
لا وجود لها سوى في رأسي؟" احتمالات لا حدود لها تؤلف عالما افتراضيا يمكن
ضبط مدخلاته من خلال كلمات ميزها الكاتب عن غيرها بجعلها غليظة بسواد أكثر، والتي
بلغ عددها 11 بالتمام والكمال ، وتتكرر كنقاط ترسيخ من جناح إلى آخر : (صورة
فوتوغرافية ،كبسة خاطفة على مصوب آلة تصوير،شرفة ، شقة ،الطابق الأول، عمارة ،
معطف شتوي ، حقيبة ، مظلة ، رجل ثان سكن بأعماقك ...) .
ما السر في توارد هذه الكلمات
والتركيبات داخل( الفوتوغرام )؟ هل هي نص غير مرئي ؟ أم بيادق شطرنج تنتظر لاعبا
محترفا لتحريكها في اتجاه انتصارات رمزية ضد كل أشكال الدمى التي تستوطننا؟ .
لنجتهد قليلا في بناء نسق تأويلي
مفترض: هناك عمارة، بها عدد من الشقق التي ترتفع إلى الأعلى، بكل شقة شرفة تطل على
نفس الأشياء، هناك أيضا شخص يرتدي معطفا شتويا ويحمل مظلة وحقيبة. هذا الشخص كما
تبين الأحداث، قد استنسخ شخصيتين غير متشابهتين من نفسه .هذا الوجود المزدوج، أقلق
السارد وأربكه. فالروح واحدة، والجسد جسدان. هذا يفرض منطقا جديدا للتواصل مع هذا
المعطى المعقد، أو بالأحرى، كيف نمنح جُزأنا الميت نصيبا من الاحترام؟ كأنْ
نمكِّنه من حياة جديدة تليق بما تركه بداخلنا من أثر، رغم كوننا نسيناه في شرفة
تطل على المطر، وعلى كل مظاهر النسيان المقصود في متحف مهجور كل شيء فيه يفضي إلى
الصمت، بعد أن كان في زمن مضى، يعج بالمعنى، ويطفح بالحياة.
يحدث دائما، ونحن نبحث في خزائن
الماضي، عن هوية كانتْ، أو صورة فوتوغرافية تلاشت، أن تصادفنا لقطة ظلت بلونها
الغامق، مغروسة بقوة في تراب الذاكرة لا تزحزحها آلات الحفر العملاقة. تطفو تلك
اللقطة لتغير برنامج بحثنا المضني، وتسيطر على تلابيب أفكارنا بلا رحمة. أليست تلك
اللقطة الميتة/ المبعوثة رغبة أخرى تآكلت حتى اعتقدنا أنها لم تكنْ ! جراء نزوع
الذاكرة للنسيان؟ أليست هي نفسها الجسد الميت فينا، والذي اتخذته الدمية مريضها
المحتاج لعنايتها ؟ التواق لعلاجها؟ ألم تشيد لنا الدمى "مصحة " ترتفع طوابقها كلما ارتفع العزف على آلة البيانو التي ظهرت فجأة من خارطة النسيان؟
8 -
"مصحة الدمى"، (فوتوغرام
حكائي)، وكتاب قصصي. نموذج سردي يعمق النقاش حول طبيعة التمثلات السردية السائدة.
الفرضية التي يمكن استخلاصها، هي كيف ننخرط في البحث عن آليات التوليف(COMBINATOIRE) التي تمكّنُ من توليد الكيانات
الرمزية التي تظهر كبنيات مترابطة تجعلنا نخرج من مفهومٍ للسرد الحكائي أداته
اللغة، إلى تمثيل لا يخرق هذه الأداة، بقدر ما يدعّمها بأنساق وخصائص تعيد صياغة
النص الحكائي، باللجوء إلى سياقات أخرى خارجية عن حدود الجملة السردية، وتأويل
نصوصها قصد بناء منظور لغوي يُدمج الأصل الرمزي مع فروعه الأخرى، ويمكّن من دراسة
النصوص باعتبارها نصوصا سردية. لقد أطلق الدارسون التوليديون في أمريكا، سُبُلاً
لتوسيع مجال الوظيفة الشعرية في المتن الحكائي لتشمل قطاعات معرفية أخرى تستطيع
تصور مفهوم السرد كالتالي: " إن النص السردي ينبغي أن يُفهَم كتعبير عن حالات
معينة، واقعية كانت أم متخيلة. وفي هذه الحال، فإن النص الأدبي يساهم، لا محالة،
في تشكيل، تأكيد، أو تغيير آراء ومواقف المتلقين." (الشعرية التوليدية: مداخل
نظرية. ص 10. عثماني ميلود). وهذا المنظور جاء نتيجة البحوث التي أنجزها علماء النفس المعرفي في
امتداده السيكو-سوسيولوجي. إن شعرية النص السردي، كما هي ظاهرة في "مصحة
الدمى" ، تتطلب الانفتاح على الحقول الإبداعية المجاورة، كمظاهر لوضعيات تواصلية، من مهامها، صياغة ضوابط سيكولوجية،
سيميوطيقية، اجتماعية أو تاريخية.
9-
هذا الحديث حول شعرية النصوص داخل
ال"مصحة"، يجرنا إلى سؤال حتمي: كيف نحكم حدسيا على أن" مصحة الدمى"
نص سردي ينتمي إلى القصة القصيرة؟ وليس لغيرها من النصوص المفترضة التي أعتقد
الكثيرون أنها تنتمي لحقل التجريب غير المراقَب؟ للإجابة عن هاته الأسئلة، كان
لابد من اعتماد الملفوظات الخاضعة للكفاية الملاحظية، أي بوصف بنى النص ككل. نجد
هذا التصور عند نحاة التوليدية الذين فطنوا إلى أن وصف النصوص الملموسة ليس برهانا
على أدبية النص. وإنما هناك أنظمة مجردة تتضمنها النصوص، لابد من وضع تعاريف
وقواعد تضبط خصائصها السطحية، أي تلك التي نقرأها مثلا في "مصحة الدمى".
فإذا قلنا أن هذا (الكتاب القصصي) قد اعتمد فن )الكوميكس( مثلا، لوصف حالات متخيلة تساعد
المتلقي على بناء نسق تأويلي مناسب، انطلاقا من حدسه الأدبي الذي يمكن استخلاص
أهميته انطلاقا من فرضية أخرى مفادها أن المتلقي قادر بحكم مقدرته الذهنية، أن
يميز بين خطاب متماسك وآخر غير متماسك، فهو قادر أيضا أن يميز بين نص أدبي متماسك،
ونص أدبي غير متماسك. يمكن أيضا أن نحدد قوة النصوص وتماسكها وأدبيتها، من خلال
معرفتنا بنصوص أخرى، أو من خلال ربط العلاقة بين النص السردي وبين السياق الخارج –
لغوي( الظرف، الواقع). إننا بحاجة إلى آلية وصفية تربط فن )الكوميكس (بتلك الأنظمة المجردة، وأسلوب توظيفها لتظهر على سطح النص، وتبرير وجودها
الفني. لنعد إلى "مصحة الدمى"، ونرى هل استطاعت تحديد هويتها داخل
الثقافة التي أنتجتها، وحققت شروط أدبيتها وشعريتها، من خلال الأنظمة التي
اعتمدتها في إنتاج المعنى. لقد أدرك أنيس الرافعي، أن السرد الحكائي لا يمكن أن
ينحصر داخل نفس القواعد الأدبية المحددة لهوية نصوص الثقافة المغربية والعربية أو
عصرها وزمنها الحالي. فانطلق إلى مفهوم نظري مفاده أن قواعد الكتابة السردية كلية،
بينما السياق السوسيو-تاريخي متحول ومرتبط بشروط العصر وثقافته. لذلك انطلق الكاتب
مباشرة لوظائف سردية كامنة في ممارسة خاصة في الكتابة، تسائل الجوهر الانساني
المشترك، مبتعدا قدر الإمكان عن السياق الثقافي الواقعي، مؤكدا افتراضه التجريبي
في شخصيات غير موجودة على أرض الواقع، وغير خاضعة أيضا، لمنطق التصريح الذي تعتمده
الحكاية. هناك سارد واحد مرجعي"صاحب الحقيبة"، لكن هناك أيضا ضمير ثان
لا يحيل بالضرورة على شخص بعينه، ولا يعبّر عنه. نجد أيضا فئة من الألفاظ الإشارية
التي كُتبتْ بخط غليظ، وتظهر في الفوتوغرام بتموقعات فضائية مدروسة. وأيضا، نجد
مجموعة من الألفاظ الصيغية (ربما، من اللائق، من المحتمل...) تشير
إلى مواقف السارد مما يكتبه أو يرسمه أو يحيل عليه. إنه سارد معترف. يعرّف
التوليديون السارد المعترف، على أنه مختلف عن الكاتب، فهو يتحدث عن حكاياته
الشخصية متوجها إلى القارئ باستمرار. وهذا حاضر بقوة في مصحة الدمى. لأن الكاتب
والسارد في هذا الفوتوغرام، قد اتفقا قبليا على قول الحقيقة ( وضع مدونة للدمى،
إحالات مضبوطة، اعترافات بالجملة، وصف دقيق لحالة الفصام...)، فأنيس الرافعي قد
اختار التموقع بين السارد والكاتب، أي أنه سرد حكاية كان هو طرفا فيها.
10-
الكاتب كما سبق وأوضحت سالفا، اختار
نموذجين: نموذج كلي و نموذج خاص. الأول هو تصوره للحكاية ووظيفيتها وأدوات
تحققها.الثاني يكمن في حرية استعمال الأنساق التعبيرية. فاللغة عنده يمكن أن تكون
منتمية لعصور سابقة، من حيث نحوها النصي ومفردات معجمها الخاص. والصورة أيضا لا
تخضع لمنطق الزمن أو الحدث السردي ، وإنما هي خطاب مرئي يلعب دور الربط الدلالي
والإحالي.
نخلص إلى أن معنى الحكاية أو القصة
أو السرد عموما، داخل " مصحة الدمى "، يعبر عن قضايا تتعلق بالكتابة،
وأخرى تتعلق بأوضاع وأحداث تجري في عالم معين، ويعبر أيضا عن مقولات سردية لا
تقليدية، لا تظهر إلا بتحليل البنى النصية العميقة التي تعمل كنظام مستقل لا يكتمل
إلا بديناميكية عرضها المعماري الخاص بها، والذي يقود محتواها التيماتيكي نحو
تعريف ينتقد اليقينيات، ويطرح إشكالات نقدية جديدة يمكن أن تخرج القصة القصيرة من
حالة الإحباط التي تعرفها.
إرسال تعليق