منذ أن التزمنا بالمكوث في منازلنا، أو بما يسميه بعضهم بالحجر المنزلي، تجنباً لمخالطة المشتبه بإصابتهم بمرض كورونا، صرنا نتوق إلى رؤية معالم المدينة، شوارعها، مكتباتها، مسارحها، متاجرها، مقاهيها، وحتى سماع صخب مركزها أو قاعها، بحكم تطبعنا وعلاقتنا الإنسانية والتاريخية بها.
يقول فيكتور هيغو عن العلاقة بين المدن وساكنيها، خاصةً الكتّاب والفنانين: "المدينة كتاب، ونحن أمام المدينة نشبه، إلى حد بعيد، قارئ مئة مليون قصيدة". وقد التقط الناقد الفرنسي الشهير رولان بارت هذه الرؤية السيميائية، بذكائه البارع، فكتب دراسةً بعنوان "السيمياء والتمدين" يتحدث فيها عن علم علامات المدينة، يمكن اعتماده في دراسة المدينة بشوارعها وحاراتها ومعمارها، من حيث كونها تنطوي على رموز وعلامات وأنساق وظيفية تشبه إلى حد بعيد أنساق النصوص الأدبية وطرائقها الجمالية في التشكّل. ويرى بارت أن من ينتدب نفسه لوضع مخطط سيميائي للمدينة عليه أن يكون سيميائياً (متخصصاً في علم العلامات)، جغرافياً، مؤرخاً، مهندساً مدنياً، ومن المحتمل أحياناً أن يكون محللاً نفسانياً. لكن من الطبيعي أن يُندر جداً اجتماع هذه المواصفات كلها في شخص واحد.
المركز في المدينة
يشير بارت، بادئ ذي بدء، إلى أن الأفكار التي يود طرحها حول سيمياء المدينة لا تتعدى طروحات هاوٍ، بالمعنى الاشتقاقي لهذه الكلمة، فالهاوي للرموز هو الذي يهوى الرموز، والهاوي للمدن هو الذي يهوى المدن، بل إنه، في الحقيقة، معجب بالرموز والمدن معاً، وهذا الإعجاب المزدوج دفعه الى الاعتقاد، وربما مع بعض التخمين، بإمكانية وضع نظرية سيميائية للمدينة، فما هي ملامح هذه النظرية؟
قبل حديثه عن المدينة يستعرض بارت بعض وقائع التاريخ الثقافي في الغرب، وبالتحديد تلك العصور اليونانية القديمة: حيث السكن الإنساني، كالذي تمكن مشاهدته من خلال الخرائط الأولى للجغرافيين اليونان: "انكسيمندر" و"هيكاتيه"، أو من خلال الخرائطية الفكرية أو الذهنية لمؤرخ مثل هيرودوت، والتي تؤلف خطاباً حقيقياً للأمكنة بتماثلاته وتناقضاته، بمبناه وبدائله، فأية خارطة محققة بيانياً من عصر هيرودوت مبنية كلغة، كجملة، كقصيدة، مبنية على التناقض: بلاد حارة وبلاد باردة، بلاد معلومة وأخرى مجهولة. ومن ثم فهي مبنية على التعارض بين الإنسان من جهة، والوحوش والخرافات من جهة أخرى، وهكذا...
وحين ينتقل بارت الى المجال المديني بالتحديد، فإنه يشير إلى أن مفهوم التماثل في التساوي الذي وضعه كلستينز لأثينا في القرن السادس، يشكل، أي هذا المفهوم، تصوراً بنيوياً واقعياً يغدو المركز في المدينة، بوساطته، الوحيد والمفضل طالما أن المواطنين بمجملهم على علاقات متفقة ومتناقضة في آن واحد مع هذا المركز. ويرى بارت أن التصور للمدينة، في ذلك العصر كان معبراً كلياً، بخلاف التصور الضروري للتوزيع المديني المرتكز على الوظائف والأعمال الخاصة بالمدن، الذي ظهر متأخراً.
المدينة كتابة في المركز
رغم استغراب بارت من عدم إعطاء الأعمال النظرية للمتخصصين في حقل التمدين سوى حيز مقتضب لمسائل المدلولية، فإنه يستثني بعض الكتّاب الذين تكلموا عن المدينة من خلال مصطلحات دلالية. ومن هؤلاء، حسب رأيه، فيكتور هيغو، الذي شرح بشكل أفضل هذه الطبيعة الرئيسة الدالة في المجال المديني، إذ كتب فصلاً شيقاً بذكاء مرهف: هذا سيقتل ذاك، هذا معناه الكتاب وذاك معناه البناء. وتعبيره برهن هيغو، بطريقة حديثة تقريباً، على إدراك للبناء الفني العظيم، وكذلك للمدينة. بمعنى آخر إدراكه ككتابة وتدوين للإنسان في المكان. ثم توضحت هذه المسألة عن الكتابة، من وجهة نظر بارت، عند جاك ديريدا، على نحو فعلي. أما من بين مختصي التمدين فلا يجد من يتحدث عن المدلولية سوى اسم واحد ظهر في هذا المضمار هو الأميركي كوين لينش، وكأنه الأقرب إلى هذه المسائل الدلالية المدينية، في حدود اهتمامه بتصور المدينة من خلال قراءتها. لكن بارت يأخذ على أبحاث لينش بأنها تبقى، من وجهة نظر شبه دلالية، شبه غامضة، وقد احتفظ بتصور للمدينة أقرب إلى الشكلانية منه الى البنيوية، رغم أنه ضمّن عمله معجماً للدلالية، ويملك الإحساس والاستيعاب للوحدات المخفية، أو غير الظاهرة عيانياً.
المدينة نسيج من عناصر صلبة ومحايدة
يرى بارت أن ثمة وعياً متزايداً لوظائف الرموز في المجال المديني بدأ يظهر في الغرب، فمن خلال دراسات مدينية ترتكز على التقديرات، أو التخمينات الكمية، وعلى الاستفتاءات المبررة، يشير إلى الحافز النوعي الواضح للرمزية التي، غالباً ما، أصبح المحللون يفسرون من خلالها أحداثاً أخرى، فيجد، مثلاً، في مجال التمدين، تقنيةً سائدةً نسبياً تدعى التصورية المصطنعة، التي لو استعملت بإطار عقلي تجريبي ومستقيم إلى حد ما، لقادت إلى تعميق المفهوم للنموذج البنيوي، أو في الأقل ما قبل بنيوي. وفي مجال آخر ومن خلال دراسات خاصة بحقل التمدين تتطلب العمل السيميائي، يكتشف بارت، رويداً رويداً، بأن ثمة نوعاً من التعارض بين النظام السيميائي ونظام آخر خاص بالظاهرات، ولذلك غدت السيميائية مالكةً لنوعية من المتعذر تبسيطها (مثال على ذلك ما لوحظ من تعارض بين وظيفة جزء من المدينة، كأحد أحيائها، مثلاً، وبين ما يسميه بارت بالمحمول الدلالي لهذا الجزء من الحي. وكذلك ما تظهره "روما" من تعارض مستمر بين الضرورات الوظيفية للمدينة الحديثة من جهة، والمحمول الدلالي المتصل بها من خلال تاريخها). ويؤكد بارت على أن هذا التعارض بين الدلالية والوظيفية من شأنه أن يشكل فقدان أمل للمتخصصين في حقل التمدين. ويضيف أن ثمة تعارضاً بين الدلالية والعقل، أو بين الدلالية وذلك العقل الآلي الحاسب، الذي يود أن تكون جميع العناصر الخاصة بالمدينة مسترجعةً، أو مستعادةً بذات النمط الواحد، بل وبحسب التصميم. وأخيراً ثمة تعارض نهائي بين المدلولية والواقعية نفسها.
ويستنتج بارت من ذلك أن المدينة نسيج مؤلّف، ليس فقط من عناصر متساوية نتمكن، من خلالها، إحصاء وظائفها، بل من عناصر صلبة وأخرى محايدة، أو كما يقول الألسنيون من عناصر محددة وعناصر غير محددة.
المدينة بوصفها خطاباً
مثلما رأى بارت أن الزي والطعام يشكلان حقلاً دلالياً يمكن قراءتهما في ضوء النموذج اللساني، فإن المدينة تُعدّ خطاباً، وهذا الأخير يُعدّ لغةً حقيقيةً: المدينة تحاكي سكانها، ونحن بدورنا نحاكي مدينتنا، المدينة حيث نتواجد في سكننا لها، في اجتيازها وتأملها. وإذا كان بإمكاننا أن نتحدث مجازياً عن لغة للمدينة كما نتكلم عن لغة للسينما، أو لغة للزهور، فإن الوثبة العلمية الحقيقية ستتحقق، كما يقول بارت، عندما يكون باستطاعتنا التحدث عن لغة للمدينة من دون مجاز، مثلما أفرغ فرويد لغة الأحلام من معناها المجازي بغية إعطائها معنى واقعياً. لكن كيف يمكن العبور من المجاز إلى التحليل عندما يجري الحديث عن لغة للمدينة؟
هنا يعود بارت، مرة ثانية، الى المتخصصين في دراسة الظاهرة المدينية، فرغم ابتعادهم عن سيمياء المدينة، لاحظوا أن المعطيات الضرورية في العلوم الاجتماعية تقدم شكلاً موافقاً، إلى حد ما، من أجل دمج النماذج وتوحيدها. لكن ما ينقص ذلك هو تقنية الرموز، ولذلك فالحاجة قائمة إلى طاقة علمية جديدة من أجل تحويل تلك المعطيات، أي العبور من المجاز إلى وصف الظاهرة الدلالية وتعريفها.
تحليل النص المديني
من أجل اكتشاف علم العلامة المدينية، أو سيمياء المدينة، يقترح بارت إجراء تحليل للنص المديني من خلال تقسيمه إلى وحدات، ومن ثم توزيع هذه الوحدات إلى مصنفات شكلية، وفي المرحلة الثالثة إيجاد قواعد لتنسيق هذه النماذج والوحدات وتشكيلها. ويحصر بارت كلامه هنا في ثلاث ملاحظات لا علاقة لها مباشرة بالمدينة، إلاّ أنها باستطاعتها التوجه بشكل مفيد صوب سيمياء المدينة:
الأولى: مفادها أن الرمزية لا تقوم على تطابق منتظم بين الدوال والمدلولات، وأنه، أي بارت، يستعمل كلمة "رمز" وكأنها تتصل بتنظيم دلالي تركيبي أو مثالي نموذجي، لكنه لا يعود إلى علم الدلالة، لذلك يدعو إلى التمييز الواضح بين المحمول الدلالي للرمز، والطبيعة التركيبية، أو النموذجية الخاصة بالرمز ذاته، فالمدلولات أشبه بالكائنات الوهمية الأسطورية في أقصى غموضها، بحيث تصبح هذه المدلولات في لحظة ما دوالاً لشيء آخر. وهذا يعني أن المدلولات تعبر، والدوال تركن أو تبقى ساكنةً. كما أن الأهمية المتزايدة أصبحت لمدلول الفراغ بدلاً من فراغ المدلول، فمدينة طوكيو، مثلاً، كواحدة من المدن الأكثر تعقيداً على الصعيد المديني إذا ما تعمدنا تصورها من وجهة نظر سيميائية، نراها تمتلك نوعاً من المركز.
لكن هذا المركز الممثل بالقصر الإمبراطوري، والمحاط بحفرة عميقة مغطاة بالخضرة، لهو معاش كمركز فارغ.
الثانية: مفادها أن الرمزية يجب أن تكون محددة أساساً، كما هي الحال في عالم الدوال، وعالم العلاقات المتبادلة. ومن خلال تجربة بارت كهاوٍ، يتضح أنه في بعض المدن توجد مجالات تتيح اختصاصات مندفعةً للوظائف، كما هي الحال، مثلاً، في السوق الشرقي، حيث الشارع الخاص بدباغي الجلود، أو السوق الخاص بصائغي المجوهرات. وفي طوكيو أيضاً بعض المقسمات في الحي الواحد يجدها بارت متجانسةً من حيث الوظيفة. وعلى الصعيد العملي توجد في طوكيو حانات ومطاعم صغيرة، وأمكنة للهو والتسلية. ولذلك يطالب بارت بالذهاب أبعد من هذا المظهر الأولي، ومن ثم عدم تحديد الوصف السيميائي للمدينة من خلال هذه الأحادية، بل تحليل البنيات الصغيرة وتفكيكها بنفس الطريقة التي نعزل بها مقاطع صغيرة من جملة لسانية طويلة، وصولاً الى حقيقتها. وبذلك يرى بارت أننا نجد أنفسنا أمام الحدس الذي أشار اليه فيكتور هيغو بقوله "إن المدينة كتاب....".
الثالثة: مفادها أن السيميائية حالياً لم تطرح أبداً وجود المدلول النهائي، بل إن المرء يجد نفسه دائماً أمام سلسلة من المجازات غير النهائية. وإذا ما طبق هذا البعد (يسميه بارت بالبعد الغرامي أو الغزلي) على المدينة، فإن غزلها هو المعرفة التي يمكن أن نستخلصها من الطبيعة المجازية اللانهائية للخطاب المديني.
ويخلص بارت من تأملاته في سيمياء المدينة إلى أنه من الأفضل عدم الاعتماد على مضاعفة التحقيقات أو الدراسات الوظيفية للمدينة، بل المطلوب مضاعفة القراءات لهذه المدينة، ويأسف لأن الكتّاب وحدهم، في الوقت الحاضر، من أعطونا بعض الأمثلة عن هذه القراءات، ومن خلال الانطلاق منها، أو من إعادة تأليف لغة أو تشريع للمدينة، يكون بالإمكان التوجه إلى وسائل ذات طبيعة أكثر علمية، كالتفتيش عن الوحدات، أو علم النحو... إلخ. لكن مع التذكير دائماً بأنه من غير الواجب تثبيت هذه المدلولات للوحدات المكتشفة، وذلك لأنه، تاريخياً، غالباً ما كانت هذه المدلولات غامضةً، ومطعوناً بها، وصعبة التطبّع، فضلاً عن أن المدينة هي قصيدة تنشر الدال أو تبسطه، بحيث يتشبث علم العلامات المدينية بهذا الانتشار ويغنيه.
يقول فيكتور هيغو عن العلاقة بين المدن وساكنيها، خاصةً الكتّاب والفنانين: "المدينة كتاب، ونحن أمام المدينة نشبه، إلى حد بعيد، قارئ مئة مليون قصيدة". وقد التقط الناقد الفرنسي الشهير رولان بارت هذه الرؤية السيميائية، بذكائه البارع، فكتب دراسةً بعنوان "السيمياء والتمدين" يتحدث فيها عن علم علامات المدينة، يمكن اعتماده في دراسة المدينة بشوارعها وحاراتها ومعمارها، من حيث كونها تنطوي على رموز وعلامات وأنساق وظيفية تشبه إلى حد بعيد أنساق النصوص الأدبية وطرائقها الجمالية في التشكّل. ويرى بارت أن من ينتدب نفسه لوضع مخطط سيميائي للمدينة عليه أن يكون سيميائياً (متخصصاً في علم العلامات)، جغرافياً، مؤرخاً، مهندساً مدنياً، ومن المحتمل أحياناً أن يكون محللاً نفسانياً. لكن من الطبيعي أن يُندر جداً اجتماع هذه المواصفات كلها في شخص واحد.
المركز في المدينة
يشير بارت، بادئ ذي بدء، إلى أن الأفكار التي يود طرحها حول سيمياء المدينة لا تتعدى طروحات هاوٍ، بالمعنى الاشتقاقي لهذه الكلمة، فالهاوي للرموز هو الذي يهوى الرموز، والهاوي للمدن هو الذي يهوى المدن، بل إنه، في الحقيقة، معجب بالرموز والمدن معاً، وهذا الإعجاب المزدوج دفعه الى الاعتقاد، وربما مع بعض التخمين، بإمكانية وضع نظرية سيميائية للمدينة، فما هي ملامح هذه النظرية؟
قبل حديثه عن المدينة يستعرض بارت بعض وقائع التاريخ الثقافي في الغرب، وبالتحديد تلك العصور اليونانية القديمة: حيث السكن الإنساني، كالذي تمكن مشاهدته من خلال الخرائط الأولى للجغرافيين اليونان: "انكسيمندر" و"هيكاتيه"، أو من خلال الخرائطية الفكرية أو الذهنية لمؤرخ مثل هيرودوت، والتي تؤلف خطاباً حقيقياً للأمكنة بتماثلاته وتناقضاته، بمبناه وبدائله، فأية خارطة محققة بيانياً من عصر هيرودوت مبنية كلغة، كجملة، كقصيدة، مبنية على التناقض: بلاد حارة وبلاد باردة، بلاد معلومة وأخرى مجهولة. ومن ثم فهي مبنية على التعارض بين الإنسان من جهة، والوحوش والخرافات من جهة أخرى، وهكذا...
وحين ينتقل بارت الى المجال المديني بالتحديد، فإنه يشير إلى أن مفهوم التماثل في التساوي الذي وضعه كلستينز لأثينا في القرن السادس، يشكل، أي هذا المفهوم، تصوراً بنيوياً واقعياً يغدو المركز في المدينة، بوساطته، الوحيد والمفضل طالما أن المواطنين بمجملهم على علاقات متفقة ومتناقضة في آن واحد مع هذا المركز. ويرى بارت أن التصور للمدينة، في ذلك العصر كان معبراً كلياً، بخلاف التصور الضروري للتوزيع المديني المرتكز على الوظائف والأعمال الخاصة بالمدن، الذي ظهر متأخراً.
المدينة كتابة في المركز
رغم استغراب بارت من عدم إعطاء الأعمال النظرية للمتخصصين في حقل التمدين سوى حيز مقتضب لمسائل المدلولية، فإنه يستثني بعض الكتّاب الذين تكلموا عن المدينة من خلال مصطلحات دلالية. ومن هؤلاء، حسب رأيه، فيكتور هيغو، الذي شرح بشكل أفضل هذه الطبيعة الرئيسة الدالة في المجال المديني، إذ كتب فصلاً شيقاً بذكاء مرهف: هذا سيقتل ذاك، هذا معناه الكتاب وذاك معناه البناء. وتعبيره برهن هيغو، بطريقة حديثة تقريباً، على إدراك للبناء الفني العظيم، وكذلك للمدينة. بمعنى آخر إدراكه ككتابة وتدوين للإنسان في المكان. ثم توضحت هذه المسألة عن الكتابة، من وجهة نظر بارت، عند جاك ديريدا، على نحو فعلي. أما من بين مختصي التمدين فلا يجد من يتحدث عن المدلولية سوى اسم واحد ظهر في هذا المضمار هو الأميركي كوين لينش، وكأنه الأقرب إلى هذه المسائل الدلالية المدينية، في حدود اهتمامه بتصور المدينة من خلال قراءتها. لكن بارت يأخذ على أبحاث لينش بأنها تبقى، من وجهة نظر شبه دلالية، شبه غامضة، وقد احتفظ بتصور للمدينة أقرب إلى الشكلانية منه الى البنيوية، رغم أنه ضمّن عمله معجماً للدلالية، ويملك الإحساس والاستيعاب للوحدات المخفية، أو غير الظاهرة عيانياً.
المدينة نسيج من عناصر صلبة ومحايدة
يرى بارت أن ثمة وعياً متزايداً لوظائف الرموز في المجال المديني بدأ يظهر في الغرب، فمن خلال دراسات مدينية ترتكز على التقديرات، أو التخمينات الكمية، وعلى الاستفتاءات المبررة، يشير إلى الحافز النوعي الواضح للرمزية التي، غالباً ما، أصبح المحللون يفسرون من خلالها أحداثاً أخرى، فيجد، مثلاً، في مجال التمدين، تقنيةً سائدةً نسبياً تدعى التصورية المصطنعة، التي لو استعملت بإطار عقلي تجريبي ومستقيم إلى حد ما، لقادت إلى تعميق المفهوم للنموذج البنيوي، أو في الأقل ما قبل بنيوي. وفي مجال آخر ومن خلال دراسات خاصة بحقل التمدين تتطلب العمل السيميائي، يكتشف بارت، رويداً رويداً، بأن ثمة نوعاً من التعارض بين النظام السيميائي ونظام آخر خاص بالظاهرات، ولذلك غدت السيميائية مالكةً لنوعية من المتعذر تبسيطها (مثال على ذلك ما لوحظ من تعارض بين وظيفة جزء من المدينة، كأحد أحيائها، مثلاً، وبين ما يسميه بارت بالمحمول الدلالي لهذا الجزء من الحي. وكذلك ما تظهره "روما" من تعارض مستمر بين الضرورات الوظيفية للمدينة الحديثة من جهة، والمحمول الدلالي المتصل بها من خلال تاريخها). ويؤكد بارت على أن هذا التعارض بين الدلالية والوظيفية من شأنه أن يشكل فقدان أمل للمتخصصين في حقل التمدين. ويضيف أن ثمة تعارضاً بين الدلالية والعقل، أو بين الدلالية وذلك العقل الآلي الحاسب، الذي يود أن تكون جميع العناصر الخاصة بالمدينة مسترجعةً، أو مستعادةً بذات النمط الواحد، بل وبحسب التصميم. وأخيراً ثمة تعارض نهائي بين المدلولية والواقعية نفسها.
ويستنتج بارت من ذلك أن المدينة نسيج مؤلّف، ليس فقط من عناصر متساوية نتمكن، من خلالها، إحصاء وظائفها، بل من عناصر صلبة وأخرى محايدة، أو كما يقول الألسنيون من عناصر محددة وعناصر غير محددة.
المدينة بوصفها خطاباً
مثلما رأى بارت أن الزي والطعام يشكلان حقلاً دلالياً يمكن قراءتهما في ضوء النموذج اللساني، فإن المدينة تُعدّ خطاباً، وهذا الأخير يُعدّ لغةً حقيقيةً: المدينة تحاكي سكانها، ونحن بدورنا نحاكي مدينتنا، المدينة حيث نتواجد في سكننا لها، في اجتيازها وتأملها. وإذا كان بإمكاننا أن نتحدث مجازياً عن لغة للمدينة كما نتكلم عن لغة للسينما، أو لغة للزهور، فإن الوثبة العلمية الحقيقية ستتحقق، كما يقول بارت، عندما يكون باستطاعتنا التحدث عن لغة للمدينة من دون مجاز، مثلما أفرغ فرويد لغة الأحلام من معناها المجازي بغية إعطائها معنى واقعياً. لكن كيف يمكن العبور من المجاز إلى التحليل عندما يجري الحديث عن لغة للمدينة؟
هنا يعود بارت، مرة ثانية، الى المتخصصين في دراسة الظاهرة المدينية، فرغم ابتعادهم عن سيمياء المدينة، لاحظوا أن المعطيات الضرورية في العلوم الاجتماعية تقدم شكلاً موافقاً، إلى حد ما، من أجل دمج النماذج وتوحيدها. لكن ما ينقص ذلك هو تقنية الرموز، ولذلك فالحاجة قائمة إلى طاقة علمية جديدة من أجل تحويل تلك المعطيات، أي العبور من المجاز إلى وصف الظاهرة الدلالية وتعريفها.
تحليل النص المديني
من أجل اكتشاف علم العلامة المدينية، أو سيمياء المدينة، يقترح بارت إجراء تحليل للنص المديني من خلال تقسيمه إلى وحدات، ومن ثم توزيع هذه الوحدات إلى مصنفات شكلية، وفي المرحلة الثالثة إيجاد قواعد لتنسيق هذه النماذج والوحدات وتشكيلها. ويحصر بارت كلامه هنا في ثلاث ملاحظات لا علاقة لها مباشرة بالمدينة، إلاّ أنها باستطاعتها التوجه بشكل مفيد صوب سيمياء المدينة:
الأولى: مفادها أن الرمزية لا تقوم على تطابق منتظم بين الدوال والمدلولات، وأنه، أي بارت، يستعمل كلمة "رمز" وكأنها تتصل بتنظيم دلالي تركيبي أو مثالي نموذجي، لكنه لا يعود إلى علم الدلالة، لذلك يدعو إلى التمييز الواضح بين المحمول الدلالي للرمز، والطبيعة التركيبية، أو النموذجية الخاصة بالرمز ذاته، فالمدلولات أشبه بالكائنات الوهمية الأسطورية في أقصى غموضها، بحيث تصبح هذه المدلولات في لحظة ما دوالاً لشيء آخر. وهذا يعني أن المدلولات تعبر، والدوال تركن أو تبقى ساكنةً. كما أن الأهمية المتزايدة أصبحت لمدلول الفراغ بدلاً من فراغ المدلول، فمدينة طوكيو، مثلاً، كواحدة من المدن الأكثر تعقيداً على الصعيد المديني إذا ما تعمدنا تصورها من وجهة نظر سيميائية، نراها تمتلك نوعاً من المركز.
لكن هذا المركز الممثل بالقصر الإمبراطوري، والمحاط بحفرة عميقة مغطاة بالخضرة، لهو معاش كمركز فارغ.
الثانية: مفادها أن الرمزية يجب أن تكون محددة أساساً، كما هي الحال في عالم الدوال، وعالم العلاقات المتبادلة. ومن خلال تجربة بارت كهاوٍ، يتضح أنه في بعض المدن توجد مجالات تتيح اختصاصات مندفعةً للوظائف، كما هي الحال، مثلاً، في السوق الشرقي، حيث الشارع الخاص بدباغي الجلود، أو السوق الخاص بصائغي المجوهرات. وفي طوكيو أيضاً بعض المقسمات في الحي الواحد يجدها بارت متجانسةً من حيث الوظيفة. وعلى الصعيد العملي توجد في طوكيو حانات ومطاعم صغيرة، وأمكنة للهو والتسلية. ولذلك يطالب بارت بالذهاب أبعد من هذا المظهر الأولي، ومن ثم عدم تحديد الوصف السيميائي للمدينة من خلال هذه الأحادية، بل تحليل البنيات الصغيرة وتفكيكها بنفس الطريقة التي نعزل بها مقاطع صغيرة من جملة لسانية طويلة، وصولاً الى حقيقتها. وبذلك يرى بارت أننا نجد أنفسنا أمام الحدس الذي أشار اليه فيكتور هيغو بقوله "إن المدينة كتاب....".
الثالثة: مفادها أن السيميائية حالياً لم تطرح أبداً وجود المدلول النهائي، بل إن المرء يجد نفسه دائماً أمام سلسلة من المجازات غير النهائية. وإذا ما طبق هذا البعد (يسميه بارت بالبعد الغرامي أو الغزلي) على المدينة، فإن غزلها هو المعرفة التي يمكن أن نستخلصها من الطبيعة المجازية اللانهائية للخطاب المديني.
ويخلص بارت من تأملاته في سيمياء المدينة إلى أنه من الأفضل عدم الاعتماد على مضاعفة التحقيقات أو الدراسات الوظيفية للمدينة، بل المطلوب مضاعفة القراءات لهذه المدينة، ويأسف لأن الكتّاب وحدهم، في الوقت الحاضر، من أعطونا بعض الأمثلة عن هذه القراءات، ومن خلال الانطلاق منها، أو من إعادة تأليف لغة أو تشريع للمدينة، يكون بالإمكان التوجه إلى وسائل ذات طبيعة أكثر علمية، كالتفتيش عن الوحدات، أو علم النحو... إلخ. لكن مع التذكير دائماً بأنه من غير الواجب تثبيت هذه المدلولات للوحدات المكتشفة، وذلك لأنه، تاريخياً، غالباً ما كانت هذه المدلولات غامضةً، ومطعوناً بها، وصعبة التطبّع، فضلاً عن أن المدينة هي قصيدة تنشر الدال أو تبسطه، بحيث يتشبث علم العلامات المدينية بهذا الانتشار ويغنيه.
إرسال تعليق